في خطوة وصفها بيان نشرته وكالة الأنباء السعودية الرسمية، بـ”نقطة مهمة للتبادلات الاقتصادية والتجارية على الصعيد الأفريقي والعالمي”، وقع تحالف مستثمرين سعوديين، هذا الأسبوع، عقد المدينة اللوجستية السعودية بالمنطقة الحرة في ميناء جيبوتي القريب من مضيق باب المندب في البحر الأحمر، والذي يشهد اضطرابات مع استمرار المتمردين الحوثيين في استهداف السفن التجارية.
وجاء في البيان حسب وكالة الأنباء السعودية “واس”، أن المدينة اللوجستية تقع على مساحة 120 ألف متر مربع في المرحلة الأولى، ويمتد عقدها لمدة 92 عاما، حيث تشتمل على معرض دائم ومنصة للصناعات السعودية، ومنطقة تبادل تجاري، تحوي عددا من المرافق والمستودعات.
ولم يكشف البيان المزيد من التفاصيل عن التحالف، لكنه ذكر أن هذا التطور برغبة مشتركة وجهود حثيثة بذلها وفد اتحاد الغرف السعودية إلى جيبوتي، والذي ضم أكثر من 100 رجل وسيدة أعمال، وممثلي بعض الجهات والهيئات الحكومية.
وتثير هذه الخطوة تساؤلات، حول ما يتعبره خبراء، “منافسة سعودية محتملة”، للسيطرة على المنافذ والموانئ البحرية القريبة مع قوى إقليمية أخرى مثل دولة الإمارات، فضلا عن تجنب التداعيات المتعلقة بالاضطرابات في البحر الأحمر، خصوصا أن جيبوتي تكتسب أهمية استراتيجية نظرا لأنها مطلة على مضيق باب المندب الذي يمثل طريقا رئيسيا للتجارة البحرية من آسيا والخليج إلى أوروبا.
ماذا تحمل هذه الخطوة؟
في حديثها مع موقع “الحرة”، تصف الخبيرة الاقتصادية السعودية، نوف الغامدي، المدينة اللوجستية في جيبوتي بـ”الخطوة الاستراتيجية للمملكة”، من أجل تعزيز وصول الصادرات السعودية إلى الأسواق الأفريقية والاستفادة من قرب ميناء جيبوتي من ميناء جازان جنوب غرب البلاد والمطل على البحر الأحمر، والذي يُعد من أكبر موانئ المملكة.
وتضيف الغامدي: “موقع ميناء جيبوتي استراتيجي بالنسبة للمملكة، نظرا لقربه من مضيق باب المندب، بوابة البحر الأحمر وخط التجارة الدولية الذي يربط شرق آسيا وأوروبا”.
ومن منظور سياسي، يؤكد هذا أيضا، المحلل السياسي السعودي، مبارك آل عاتي، والذي يقول لموقع “الحرة” إن المدينة اللوجستية السعودية في ميناء جيبوتي، تمثل “خطوة مهمة لوجستيا واقتصاديا وسياسيا، وذلك بالنظر إلى موقع جيبوتي الجغرافي”.
ويضيف: “هذا الأمر يأتي أيضا مع قوة العلاقات الأخوية بين السعودية وجيبوتي وبين المملكة والأشقاء في قارة أفريقيا”.
وتؤكد هذه الخطوة على “قوة النفوذ الاقتصادي السعودي” على المستوى الدولي، حسب آل عاتي والذي يشير إلى أنها “ستزيد من إسهامات المملكة في تحقيق التنمية لدول القارة وخلق آلاف الوظائف للسعوديين والأشقاء في أفريقيا بما يزيد من فرص الرخاء العالمي”.
تنافس إقليمي؟
لم يتطرق المحللون السعوديون إلى تنافس إقليمي بين السعودية والإمارات للسيطرة على المناطق اللوجستية والمنافذ البحرية في المنطقة، لكن محللين آخرين يعتبرون الاتفاق يأتي في إطار تنافسي، إذ يقول الخبير الاقتصادي المصري، مدحت نافع، إن “هذه الخطوة يمكن رؤيتها في سياق تنافس إقليمي محموم للسيطرة على المنافذ البحرية ذات الأهمية الاستراتيجية”.
ويضيف: “من الواضح أن السعودية ترى أهمية موقع جيبوتي الذي يصلح كبوابة قريبة للمملكة على قارة أفريقيا الغنية بالموارد الطبيعية المطلوبة لحركة العمران والتنمية أكثر من أي وقت مضى”.
بدوره، يقول الخبير الاقتصادي، والمحاضر بجامعة جيبوتي، إدريس أوكيه وايس، لموقع “الحرة” إن الموقع الجغرافي لجيبوتي في قلب القرن الأفريقي، على خط ملاحي حيوي، “يسمح لها بلعب دور دولي يتجاوز أبعادها بكثير”، خصوصا أن أكثر من 40 بالمئة من التجارة البحرية العالمية تمر عبر الساحل الجيبوتي.
ويضيف: “يعتمد الاقتصاد في الأساس على الأنشطة الخدمية المرتبطة بموقعها الجغرافي الاستراتيجي بالقرب من أحد أكثر الممرات ازدحاما في العالم بين المحيط الهندي وقناة السويس”.
ومع ذلك، فإن توقيع اتفاقية شراكة بين جيبوتي والسعودية “لا يعني وجود حالة من المنافسة مع الإمارات”، حسب وايس، والذي يشير إلى أن بلاده تستفيد من هذه الاتفاقية “من خلال التطوير الاستراتيجي للبنية التحتية اللوجستية”.
لكنه عاد ليقول: “رغم ذلك، من الممكن الحديث بأن العلاقة السعودية الإماراتية تمر بمراحل، لكن لا يمكن التسرع في الأحكام. ولا شك أن علينا أن نأخذ هذه العلاقة بنفس الفلسفة التي يتعامل بها الإماراتيون والسعوديون أنفسهم، فيما يتعلق بأن المنافسة دائما تجعلك أقوى وأفضل”.
وثمة نزاع بين موانئ دبي العالمية وجيبوتي منذ عام 2012 بشأن امتياز ممنوح للشركة لتشغيل محطة حاويات دوراليه بميناء جيبوتي الواقع على طرق تجارة مهمة عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر لمدة 50 عاما بعقد امتياز وقع في عام 2006.
لكن حكومة جيبوتي نزعت المحطة من موانئ دبي العالمية التي تسيطر عليها حكومة دبي في عام 2018، وفق وكالة “رويترز”، حيث تطالب موانئ دبي العالمية منذ ذلك الحين تعويضات عن الفاقد المقدر في الإيرادات ورسوم الإدارة من عام 2018.
كما سبق وأن قضت محكمة لندن للتحكيم الدولي في عام 2021، بأن الامتياز الممنوح لموانئ دبي العالمية قانوني وملزم وأمرت جيبوتي بإعادة حقوق الشركة التي تدير شبكة من 150 مرفقا في 45 دولة بمختلف أنحاء العالم، من بينها محطة حاويات في ميناء بربرة بأرض الصومال بالقرب من جيبوتي.
ولطالما كانت جيبوتي مسرحا للتنافس الاقتصادي والعسكري، بين مختلف القوى الدولية، حيث تضم العديد من القواعد العسكرية، بما في ذلك لخصوم ومنافسين، مثل الولايات المتحدة والصين.
رغم ذلك، لا تعتقد مديرة البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة، أماني الطويل، أن “المنطقة اللوجستية السعودية في جيبوتي بمثابة تنافس مع دولة الإمارات”، وتقول في حديثها لموقع “الحرة” إن “كل القوى الإقليمية والدولية تسعى إلى أن تكون لها نقطة ارتكاز في البحر الأحمر”.
وتضيف: “جيبوتي تستضيف قواعد عسكرية لدول عدة من بينها أيضا السعودية والإمارات، فضلا عن الولايات المتحدة وفرنسا والصين، حيث إن فكرة تأجير الأراضي للقواعد العسكرية يمثل سياق عام لدى الدولة الواقعة في القرن الأفريقي”.
بدوره يؤكد آل عاتي أن “الخطوة السعودية جاءت انطلاقا من استراتيجية الموقع الجغرافي لجيبوتي كبوابة للقرن الأفريقي وتماشيا مع رؤية 2030 ودعما للصادرات السعودية وبرنامج صنع في المملكة وتشجيع المحتوى المحلي للخروج إلى العالم”.
فيما تذكر الغامدي أن المملكة تعتزم “التوسع في المخطط العام للمراكز اللوجستية، سواء محليا أو إقليميا أو دوليا بالتعاون مع القطاع الخاص، بما يدعم التجارة الدولية ويعزز النمو الاقتصادي للبلاد في إطار رؤية 2030”.
وتقول الخبيرة الاقتصادية السعودية إن “التسهيلات الاقتصادية التي قدمتها جيبوتي للمستثمرين السعوديين، مهمة للغاية، حيث ستصبح المدينة اللوجستية السعودية، نقطة انطلاق رئيسة نحو القارة بأكملها”.
وتتابع: “هذه المنطقة ستتبعها المزيد من الخطوات في إطار الاستراتيجية اللوجستية للمملكة والتي تركز على تحقيق التكامل اللوجستي مع بلدان عدة في إطار رؤية 2030”.
الأزمات السياسية؟
منذ نوفمبر الماضي، يشن المتمردون الحوثيون، هجمات انطلاقا من اليمن، بطائرات مسيّرة وصواريخ على سفن تجارية في البحر الأحمر والمحيط الهندي، “تضامنا مع الفلسطينيين” في حرب غزة، قائلين إنهم يحاولون استهداف السفن الإسرائيلية أو المرتبطة بإسرائيل.
لكن الكثير من السفن التي هاجموها ليست إسرائيلية أو متجهة إلى إسرائيل.
وأدت الهجمات التي يشنها الحوثيون، إلى اضطراب حركة الشحن العالمية، مما دفع شركات إلى تحويل مسار سفنها إلى طريق رأس الرجاء الصالح الأطول والأكثر تكلفة، وأثار ذلك مخاوف من امتداد الصراع بين إسرائيل وحركة حماس (المصنفة إرهابية في الولايات المتحدة ودول أخرى) إلى أماكن أخرى من الشرق الأوسط، مما يؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة.
وتقول مصر إن إيرادات قناة السويس تراجعت بنسبة 50 بالمئة بسبب اضطراب حركة الشحن في البحر الأحمر، التي كانت قد سجلت 8.8 مليارات دولار خلال العام المالي الماضي.
واتفق الخبراء خلال حديثهم على أن اضطرابات الجارية في البحر الأحمر أو حدوث تطورات إقليمية أخرى تؤثر على مضيق هرمز في منطقة الخليج العربي، قد تكون الدافع وراء خطوة أكبر مصدر للنفط في العالم، إذ يقول نافع إن “هاجس التأمين خاصة مع تزايد مخاطر الهجمات في البحر الأحمر سيظل عاملا مؤثرا في التحول نحو تلك الخطوة وإلى مشروعات جادة أكثر بالنسبة للسعودية في القطاع اللوجستي”.
فيما يقول الخبير الاقتصادي الجيبوتي، إن “النفط يجعل أيضا مضيق هرمز منطقة لا غنى عنها للاقتصاد العالمي، باعتبارها واحدة من أكثر المناطق الاستراتيجية سخونة على هذا الكوكب”، في إشارة إلى الأنشطة الإيرانية في المضيق، وتكرار عمليات احتجاز السفن كان أخرها سفينة قالت إنها إسرائيلية في أبريل الماضي.
ويضيف وايس: “حتى التعطل المؤقت للملاحة في مضيق هرمز أيضا من الممكن أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة العالمية. فقط السعودية والإمارات تمتلكان شبكة من خطوط أنابيب النفط تسمح لهما بتجاوز مرور السفن من المضيق”.
ورغم أن السعودية لم تعلن تأثر حركة التجارة في موانئها المطلة على البحر الأحمر جراء الهجمات، يؤكد آل عاتي أن “المدينة اللوجستية السعودية في ميناء جيبوتي”، قد تأتي ضمن خطط المملكة للاستعداد إلى “أي أزمات محتملة في المنطقة قد تؤثر على الصادرات والواردات جراء الأوضاع السياسية”.
ويختتم آل عاتي حديثه بالقول: “هذه المنطقة (ميناء جيبوتي) تجنب الموارد والصادرات السعودية من تأثيرات التقلبات والأزمات السياسية في جنوب البحر الأحمر”.