معارك الجزائر ( النص الكامل بالعربيّة لمساهمة الدكتور سعيد سعدي )

كما عوّدنا عليه منذ بدأ الحراك الشعبي، نشر اليوم الدكتور سعيد سعدي، المناضل الحقوقي الذي يحمل فوق أكتافه أكثر من خمس عشريات نضال من أجل الديمقراطية و حقوق الإنسان و الحريات، مساهمة جديدة تضع القارئ و المواطن الناشط في قلب الحدث. و قد تناول الدكتور سعيد سعدي هذا الأسبوع موضوع دور الجيش كما يجب أن يكون حيال الثورة الشعبية المبهرة التي تعرفها الجزائر و ماهية العلاقة التي يتوجب على المؤسسة العسكرية أن تتتبنّاها لتكون بحق سليلة جيش التحرير الوطني.

كما برهن الدكتور سعيد سعدي بالأدلة عبثيّة مقاربة الحراك الشعبي بالمناورات الدنيئة و لخّص بعض المواقف الشعبية التي تعطي أملا في نجاح الثورة.

و في الأخير دعا الدكتور سعيد سعدي المواطنين و الناشطين و الفاعلين إلى اغتنام سهرات رمضان لفتح فضاءات نقاش و تشاور حول سبل وضع خريطة طريق واضحة للمرحلة الانتقالية.

و كما عودنا قراءنا الكرام، نلحق المساهمة كاملة في هذا المنشور. قراءة طيبة.

نبيلة براهم

 

 

معارك الجزائر

 

إن الهزّات التي تزعزع النظام المنحطّ تتضاعف. و كما هو الحال دائما في الأنظمة الغير شرعية، تتمّ إعادة الترتيبات بشكل مفاجئ و في صخب. و من المهمّ بمكان أن تحرز الحركة الشعبية التي تحمل آمالا ضخمة، و لو كانت ضعيفة حاليا، نفسها من مغبّة امتصاصها في قلب عواصف لا تعنيها. فبرغم الضوضاء التي تحدثه، تبقى هذه الصدامات العُصبيّة أحداثا ثانويّة بالنظر للمعركة الحقيقيّة التي يجب أن تجندّنا دائما و التي يواجه فيها الشعب الأوليغارشيّة.

 

الثقافة الإنكشاريّة

لقد تمّ ، هذا السبت 04 ماي،  إلقاء القبض على كلّ من  الشقيق الأصغر للرئيس المخلوع الذي طالما تمّ تقديمه كصاحب الحلّ و الرّبط في الرئاسة، و المسئولين الأخيرين لمصالح الإستخبارات الجزائريّة . دون استصدار أي حكم مسبق على ما نُسب لهم من جنح و جرائم ، يمكن التخمين أن للخرجة الأخيرة لوزير الدفاع السابق، اللواء خالد نزار، و إعتراف رئيس الدولة السابق، ليامين زروال،  لها علاقة بتسريع القرار المتّخذ في  04 ماي. فقد صرّح الأوّل علانيّة أنّ سعيد بوتفليقة كشف له في شهر مارس عن نيّته إعلان حالة الحصار أو الطوارئ ، و عزمه تنحية رئيس الاركان الحالي ، أحمد ڨايد صالح. و قبله، كشف زروال أن الجنرال توفيق تقرّب منه لصالح سعيد بوتفليقة من أجل إدارة المرحلة الانتقاليّة.

لحد الآن، تبقى العلاقة بين هذه المفاوضات و الإعتقالات الثلاثة مجرّد تخمينات أو ربّما احتمالات. و عليه يتوجّب أخذ الحيطة اللازمة في تقديم التحاليل و عدم العويل بصفة آلية مع الذئاب. و لكن إن صدُقت التأويلات فالأمر يصبح أكثر رعبا للبلاد ممّا كنّا نتصوّر. ما معناه ؟

لقد قام رجل بصفة تدريجية و على وقع انهيار صحّة أخيره بتعيين و حلّ حكومات، السطو على الخزينة العمومية من أجل توجيه الإقتصاد نحو مصالح مشكوك فيها و زجّ الأمّة في علاقات دوليّة ملزمة، دون أن يراها أحد مشكلة. و يوم حامت حوله شكوك بالمسّ بمواقع مكتسبة، وُصف تصرفه بالخيانة العظمى.

إن ما يُطرح في هذا المسلسل الذي استولت فيه متاهات يشغلها فاعلون بلا صفة رسميّة هو مفهوم المسئوليّة العامة. إن تزاحم الأحداث و فضاعتها لن تشغلنا عن واجب التبصّر لفهم مصدر هذه اللعنات

بشكل أساسي، ما يحدث تحت أعيننا ليس أمرا جديدا. إن الثقافة الإنكشاريّة التي يقوم فيها رئيس عُصبة بفصل رأس حاكم قبل أن يلقى، هو كذلك، نفس المصير متجذّرة منذ القدم و لم تعطي أبدا مؤسسات مستقرّة و ذات مصداقيّة.  إكتفت القوى الفرنسيّة بثلاثة أسابيع كي تحسم الأمر مع جيش الداي رغم مساندة 12000 مكافح وصلوا من منطقة القبائل لحماية الذرع الشرقي للعاصمة. و غير بعيد منّا، رأينا نُسخا جدّ حديثة من هذه التداولات الدمويّة : في 1965 مع انقلاب بومدين، في 1967 عندما قام رئيس أركان الجيش أنذاك، طاهر زبيري، بمحاولة انقلاب فاشلة، و في 1992، عندما أُرغم رئيس الدولة على الاستقالة،  قبل رؤية من فجّر فتيل نوفمبر 1954 مغتالا على المباشر في التلفزيون

ما يجب القيام به فعلا، هو تحرير الأمّة من هذه الدّوامة الجهنميّة. إنّ تجاوز العراقيل التي أثقلت كاهل البلاد لن يكون بتركيز الرؤية على حرب العُصب و إن كانت مذهلة. و معركة الجزائر هذه التي انتصرت فيها عُصبة على أخرى، و بخلفية تآزر جهوي، لا توحي بالاطمئنان على استقرار و انسجام الأمة  التي من أجلها انتفض ملايين الجزائريين منذ 22 فيفري

للذين ينظرون للوضع السياسي للبلاد من خلال موازين القوى التي تميّز تطورات النظام، القائمة تاريخيا على المواجهة، تبقى هذه الإعتقالات الثلاثة، التي قد تشدّ، بلا شكّ، اهتمام الصحف لبضع أيّام أو أسابيع،  مجرّد زلزال ضعيف. و في هذا، حافز على عدم ترك ثورة القصور تمتص كفاحنا. فهناك أحداث أكثر أهميّة و فيها أكبر منفعة للبلاد، تؤسّس لتاريخ جديد. و يجب تصويب جهودنا و اهتماماتنا نحو هذه الأحداث و لا غير.

و عليه يبقى ضروريا، الرجوع دوما للأساس الذي يقام كلّ جمعة لتحليل معركة الجزائر الأخرى بصفة جيدة

لا المطر و لا التهديدات منعت المتظاهرين من الخروج مرة أخرى و بكثافة في نهاية الأسبوع الأخير

حتى التواريخ الرمزيّة للتقويم الزمني بدت و كأنها تبتسم لحركة التحرير الجزائرية. فبعد أربعاء الفاتح ماي التي شهدت تحرّر عالم الشغل من وصاية نقابيّة قامت بتشويهه وإذلاله، أتت جمعة 03 ماي، الخاصة بحريّة الصحافة ، لتكون  امتدادا للكفاح من أجل دمقرطة بلدنا الذي تشرّفه العاصمة اسبوعا بعد أسبوع و بنفس الحماس و الحيويّة

 

الإتجّاه الممنوع للتاريخ

إن هذه الثورة التي لم يستطع أحد النيل منها تبقى مستهدفة بمناورات و استفزازات و محاولات تقسيم و تشويش إعلامي يذكّرنا بتجارب أليمة

إن لم يعد للمداهمات و الحشر في المخيّمات وجود، فإنّ السلوكيات و أهداف هذه العمليّة تصبو، كما هو الحال بالامس، إلى تبرير المستحيل : منع الإرادة الشعبية من تجسيد سيادتها كاملة غير منقوصة.

في الماضي، ظنت قوى أخرى أنها قادرة على دحض عزم الجزائريين على نيل استقلالهم. و اليوم لم يعد القامع أجنبيا و لكن تبقى إرادتهما تلتقيان في العمى : الإلتزام في الإتجاه الممنوع للتاريخ

كما هو الحال في سنوات الجمر، تأخذ وسائل الدعاية مكان انتشار الوحدات لإعطاء الإنطباع ، في كل جمعة، أن تعبئة سكان العاصمة في تناقص. إن ما يحدث في المدن الداخليّة ، أين تشهد التعبئة الشعبية تزايدا في كل الولايات، اصبح غير مهمّا. المستعجل بالنسبة لهم هو اجتناب التواجد الدائم للعلاقة الحميمية بين الشعب بإبعاد المقاطعات عن واجهة البلاد

يترصّد التلفزيون العمومي، متبوعا بنسخه الشبه عموميّة، أدنى فضاء فارغ في أي ساحة أو شارع ليجعله مادة يتمّ تركيبها في نشرة الثامنة كمشهد يؤكّد بها أطروحة تناقص الإنخراط في الانتفاضة

و ليس هذا كلّ شيئ. فالتشبه بالماضي العصيب أخذ أبعادا كبيرة. إن السلطة تفرض على مواليها محاولات اختراق الأرياف لإقناع الأهالي بالتراجع عن ذهابها إلى العاصمة، و إقناعهم، إن أمكن، أنّ النظام الأبدي صامد و لن يتنازل عن أي شيء

 

المعركة الأخرى للجزائر

كيف يمكننا قراءة الولاءات المتفرقّة التي يعتمد عليها القادة العسكريّون لقلب الوضعية لصالحهم ؟ و ما هي هذه الولاءات أوّلا ؟

إن أحد فروع المنظمة العالمية للإخوان المسلمين الذي قدّم، ثلاثة أشهر من قبل، ولاءه للسلطان المقبوض عليه الآن، يصفّق بنفس الحماس للرسالة الأخيرة للجيش. غدا، سيصفق هذا الفرع ، و بسرعة محسوبة، أي فريق يقود قطار السلطة. المهم هو أخذ مكان في إحدى القاطرات أين يسمح البازار الاقتصادي من اقتناص بعض المواقع، و لو كانت جانبية، في انتظار التقرّب من القاطرة المحرّكة. إنّه تضييع للوقت. فالتاريخ غيّر وجهته. و التجربة الفاشلة للمصري مرسي الذي لم يتردّد في إعادة خياطة الدستور على مقاسه و تموّجات التركي أردوغان، اللذان وصلا إلى سدّة الحكم، هي  تجارب من شانها إقناع أتباع الأنظمة الطائفية التي حكم عليها التاريخ سلبا،  أن يفكّروا في تسجيل أعمالهم في إطار الأمّة الناهضة

إلى جانب هؤلاء المحترفين في سياسة التوغّل، يظهر متربّصو الإستعداد السياسي. هؤلاء سمّموا أنفسهم إلى درجة لا تمكّنهم من تخيّل جزائر من غير طموحاتهم. فاليوم، أرجلهم في النظام و عين على الحراك. يريدون تنظيم الرئاسيات قبل التشريعيات بكلّ ثمن. و بأقصى سرعة. و هم يخلطون بين مسارهم الشخصي و قدر الشعب الثائر، تجدهم يتحسسون مشاعر العسكر لتكييف خطابهم و تأمين مواقعهم، كما يفعل بالضبط ذلك المصاب بالربو عندما يترصّد الأحوال الجويّة لينظم خرجاته و يضبط جرع دوائه.  إنّ سوء تقديرهم و سطحيّة تحليلهم و خطأ أحكامهم يقترب من اللاعقلانية

هذه هي الأعمدة التي تطمح من خلالها قيادة الجيش الترويج لخطة يتعذّر علينا  قراءتها سياسيا و هي هشّة استراتيجيا.

على أرض الواقع، لا شيئ يفرح القيادة العسكريّة. في الجلفة، لم تستطع الصور المقرّبة التي تاخذها كاميرات التلفزيون العمومي ، الموفدة هذا الأربعاء بالمناسبة، فعل أي شيئ لتضخيم مشهد الحضور لفرقاطة  بُعثت لعين المكان من أجل الرفع من مستوى مصداقيّة قيادة الأركان. بزعامة إمرأة كانت بالأمس تحيي عبقريّة بوتفليقة، تحولت المهمة إلى فشل ذريع. لقد أتت الفرقة بمهمّة زرع التفرقة ، فطردت شرّ طردة و لم تلقى طوق النجاة إلّا في الهروب. و شرب من بعثوها العلقم . و أتت ردّة فعل مدينة الجلفة التي ندّدت بوضوح بالمناورة الدنيئة، بتنظيم مظاهرات مناهضة للنظام حُملت فيها بجانب العلم الوطني رايات الأمازيغ و أولاد نايل. إن الخلاص لن يأتي إلّا من إخلاص المواطن

على المستوى الشعبي ، فقدت أركان الجيش معركة جزائر أخرى كان يمكن لها عدم خوضها. و لو حاولت قيادة الأركان إقناع نفسها بمحاولة عمليات أخرى أكثر خطرا، فما هذا المجد الذي قد تجنيه من انتصار ضد شعبها ؟ و بأي ثمن ؟

إلى حد الآن، تموقع المسئولون في رفض الأمر البديهي. الثورة المدنيّة التي حوّلت المشهد السياسي الجزائري هي، أوّلا و قبل كلّ شيئ، تعبير جلّي عن نهاية النظام العسكري. بكل هدوء و حزم، و بغض النظر عن  التغيير الضروري للأشخاص، تدعو هذه الانتفاضة لإعادة النظر في كل شيء من أجل تأسيس دولة جديدة تحمل في ثناياها العدالة و الرقيّ و الحريّة. و سيكون مؤسفا جدا أن يتحقّق هذا المشروع الخالص ضد الجيش الجزائري. عندما يتدخّل العسكري في الساحة السياسية أو ، اخطر من ذلك، عندما يزعم أنّه يسيّرها و يدجّنها، يصبح من أخطر القوى الغير دستوريّة.  ما زال الوقت سانحا للجيش الوطني الشعبي كي يراجع مواقفه و يغتنم الفرصة المتاحة له كي ينصهر في الجمهوريّة برجوعه إلى الثكنات. و عندها فقط، يمكنه الإنتصار في معركة الجزائر و تقديم نفسه كسليل جيش التحرير الوطني الذي وضع نصب أعينه تحرير الوطن

المهم

و يبقى المهم. يجب الآن تحمّل المعنى و التبعات الديمقراطية لهذه الثورة المعجزة دون الإكتراث بتقلبات السلطة

إضافة إلى ضرورة مواصلة النضال الذي يجب تكييفه مع الحالة الراهنة، يمكن الاستفادة من سهرات رمضان للنقاش حول صيغ التنظيم و الجداول الزمنية للمرحلة الانتقالية. فمن الضروري أن يفهم الجميع أنه في هذه المرحلة، و بعيدا عن التشنجات التي تعرفها السلطة، يتمّ تقرير مصير القدر الجزائري. فهنا، يستلزم تعبئة كل الطاقات المعنويّة و الفكريّة و السياسية للبلاد لأنّ كل شيء مرهون بها، و منها ينبثق كل شيء. إن كان الأصعب، و المتمثل في تجاوز الخوف، قد كسبناه، فإن الأمر الحسّاس، و هو الأهمّ، ما زال أمامنا

 

سعيد سعدي

الجزائر، 05 ماي 2019