نشر اليوم الرئيس السابق للإرسيدي ، سعيد سعدي، مساهمة قيّمة في موقع TSA، تم في ما بعد تداولها عبر مختلف المؤسسات الإعلامية و المواقع الإخبارية ، نظرا لأهميتها و للتقدير الذي تحضى به تحليلات هذا الرجل السياسي.
و نظرا لأهمية هذا النص، قام موقع القلم بترجمته ترجمة آنية ارتجالية قصد نشره. و ننوه قراءنا أن ما قد ينجم من سوء ترجمة للنص الأصلي لا تلزم الدكتور سعيد سعدي في شيئ. فالرجاء تفهم الموقف.
تحدي الحقيقة
لم يُسند لهذه المساهمة أي غرض غير تقديم تحليل واضح للوضع الجزائري بما يحمله من عيوب آنية و فؤول مظلمة. إن كاتب هذه الأسطر ليس مرشحا لأي منصب كان و لا طرفا فاعلا في أي من الفصول المسرحية التي تُنسج هنا و هناك منذ أسابيع.
أصبح غير ضروريا التذكير بتشخيص متفق عليه من قبل الجميع و الذي مفاده أن الجزائر ضيّعت انطلاقة ما بعد الثورة. لتبرير ترشحه المذلّ لشخصه و للوطن، لم يجد الرئيس الحاكم مدى الحياة سوى الإنظمام لفكرة المعارضة الديمقراطية الداعية لإجراء إصلاحات عميقة حاربها طيلة عشرين سنة من حكم قد يدفع فاتورة تبعاته جيلين أو ثلاث على أقل تقدير.
الإنكار
إن ما يمكن أن يشكل محور حوار و يستحق تفكيرا من أجل إيجاد بدائل، و لو أنها ضئيلة، لمحنتنا الحاليّة، هي الأسباب الموضوعية و الذاتية التي جعلت من بلد ثري نسخة إفريقية لفينزويلا، استطاع رئيسها العاشق للسلطة و الغافل عن محنة شعبه أن يفتح الطريق لوضع بلده تحت الوصاية. نقول هذا و لو أن في كراكاس، ملايين من المواطنين تتظاهر في الشوارع للتعبير عن رفضها للاستسلام و الرضوخ في حين يُروَّج هنا لإشاعات تؤسّس لأوهام عودة الإمام المهدي المنتظر.
إن الجزائر التي عرفناها ، بمعالمها الرمزيّة و ركائزها المؤسساتية و مكتسباتها السياسيّة و ما تبعها من تراجع ثقافي و تفكّك اجتماعي و ركود إقتصادي، قد انتهت.
و أمام هذه الإشكال الوجودي، تموقعت غالبية الفاعلين السياسيّين في زاويّة الانكار.
أصبحنا اليوم نادرا ما نسمع أن الغرق الذي نحن فيه هو أمر آليّ و متوقع في ظل نظام أوليغارشي قام بسلب الثروات المعنويّة و البشرية و المادية للبلد قبل أن يتستنزفها.
المقترحات الأكثر جرأة تروّج لفكرة أن رفض العهدة الخامسة كاف لإعادة المصداقية و الإستقرار و النجاعة للدولة. كل عصبة تؤكّد أن الماكنة التي حوّلت مجرى الأمل في 1962 و سحقت مستقبلا واعدا لكل الطموحات، يمكنها أن تكون أداة تقدّم و منبع فرح إن أوكلت لها مفاتيح تشغيلها.
إننا هنا في قلب الإشكالية الوطنيّة. إن المأزق الجزائري لا يقلق فقط بضخامته و تعقيداته و تبعاته. بل أصبح عازلا بسبب التدجين الثقافي و السياسي للنخب الذي ينجرّ عنه عدم التفكير خارج خانة المفاهيم التي ترسمها موازين قوى ضبطها تاريخيا العنف و الضبابية. منذ تقبّل التعدّدية في 1988، ظهر شعار، يخلط بين الأسباب و النتائج ، و أتى على شكل حكم نهائي مفاده أن الجزائر لا تعاني أصلا من نظرة سياسية جامحة للحياة العامة تؤدي حتما إلى الكارثة و إنما معضلتها في تسيير سيئ قاده مسئول،يتم التنديد به طبعا بعد موته أو سقوطه من الحكم.
بدل استكشاف مسالك، تضيق يوما بعد يوم، جديرة بالتفتح على النيات الحسنة، يزعم أغلب المتدخلين أن العمل بنفس الإجراءات و الخوض في نفس المؤسسات بمقدوره احتواء و ايقاف تصادم الصفائح التكتونية التي تولّد ابتعاد المواطن من حاكمه. إن المشكلة جادة لأن عمق و حجم الصدع يهدّد كل منطقة شمال إفريقيا.
لقد هجرت القناعة السياسية و الإخلاص هذا الوطن. و أصبح الالتزام مربوط بالوصول الفوري لنتائج مربحة دون الاكتراث بالأخلاقيات. التاريخ الطويل منبوذ. كلّ شيء ماض و كأن الزبون السياسي، مشلول و مبهور بجلاده، خائف من أخذ مسؤولياته في حياة حرة، فتجده يفضل الأمان الذي يوفره الحبس. إن التموقع السياسي أصبح تمليه غريزة البقاء و العقل أصبح مربوطا بالوقت الراهن الذي لا يتحكّم فيه أحد. كلّ واحد أصبح يبحث عن عرّاب يضمن له مصالحه و، إن أمكن، يشبع أيضا بغضه. المهم هو الهروب من الحاضر و إن كان ذلك يرهن مستقبل أولاده. إننا في زمن ننظر فيه إلى الزبد و نتجاهل فيه الموج العالي. فإلى هذه المحطة وصلنا.
تشنجات و حسابات
خمسة عشر يوم مضت، كانت الجزائر تعيش حالة استرفاع دستوري. رئيس دولة غير مسموع و غير مرئي، مجلس أمة بدون رئيس، مجلس شعبي وطني يديره إنقلابي، رئاسة مجلس دستوري شاغرة و … رئيس أركان يجزم أنه لا يريد مزاولة السياسة. كلها عناصر جعلت البلد في حالة سياسية و ادارية افتراضية غير منتظرة. و ليكتمل المشهد، تم اسقاط رجل على رأس مجمّع يزعم أنّه العمود الفقري للتحالف الرئاسي ليقرر لوحده حلّ كلّ هياكل الحزب
و في ظل هذه الدولة التي لا روح لها و لا وجه، تمّ توجيه أربعة أشخاص حيليين، لا تستوعب قاعدتهم النضالية حتى أفراد عائلاتهم، للقيام بالمهام المنزليّة ريثما يكمل عرّابهم وضع لمسات الديكور و ردم مواقع الإختلاف و تلميع ” الصورة ” المترشّحة.
حزبان من المعارضة ، التجمع من أجل الثقافة و الديمقراطية و جبهة القوى الإشتراكية، يا لها من صدفة، قدّما، كل بطريقته، رفضا تاما لخيار الإنتخابات الذي إعتبراه ، في الواقع، مجرد إعادة تجديد عهدة حاكم جائر.
و من غير هذا، بقيت الطبقة السياسية تراهن على انقلاب عصبة ما قد يحدث في آخر لحظة و يضمن إعادة التصنيف داخل القالب الثابت.
استثناء يؤكّد القاعدة : الحزب الإسلامي حمس. بكونه عضوا ملتزما في حركة الإخوان المسلمين العالمية، و عملا بمبدأ زملائه في الحركة، تموقع في حاضنة النظام الذي يعرفون أن عيبه الأساسي : عدم الشرعية. من الناحية التكتيكية، يستطيع الإخواني أن يتقمص ضرفيا دور المعارض و لكن استراتجيته تبقى ثابتة : التسلل إلى قلب النظام مقاربة لا يمكن إنكارها. و طبعا، لهذه الخطوة منطقها و منهجيتها. فالمنطق يرشّح أن المنافسة حول الإستحواذ بالدين تنتهي حتما بالرجوع لمن يناشد به رسميا. إن السجال حول الصلاة في المدرسة الذي دفع حمس و أتباعه إلى الدعوة إلى تطبيق المادة الثانية من الدستور الناصة بأن الإسلام دين الدولة يضعنا أمام محدودية الخدع التي نفخّخ بها القيم و المبادئ التي تُبنى بها الأمم. تطبيقيا، تختصر خطة الإخوان في الاستحواذ على أدنى مساحة متوفرة للتقدم في انتظار نضج الفاكهة.
أمّا باقي المتنافسين، فإنه الضباب الذي تتنافس في ثناياه الإرتجالية و التسرع. و المقاربة العجيبة أن عشرات المترشحين الفولكلوريين هم من يعطون الصورة الأوضح لهذا الظرف التاريخي الخاص. تواجدهم المزدحم في هذا السباق تعبير وفي عن مدى تلاشي الخضمّ السياسي الجزائري. فبأي حق يكون ترشح خطاط أحراز أقل مصداقية من “صورة” ؟
أما أولائك الذين يلعبون ورقة الجدية، فاستياؤنا كبير أمام رداءة الإقتراحات التي يسوقّون لها. إنّ استعمال العواطف و الدعوة إلى النيف الوطني و تمرير فكرة أو فكرتين، يتمّ نسفها لاحقا باعتراف مناقض، تعطي الإشارة الواضحة عن عدم التحضير الجدي لشغل منصب جد هام كمنصب رئيس الجمهورية.
العطب اللامتناهي
في وسط هذا الكمّ، يؤكّد ضابط سامي سابق، قد يكون محترما كشخص، أن له الحل لمجابهة العواصف التي تحوم فوق رؤوسنا. و بما أنه يجد صعوبات لوضع مضمون لنواياه أو لتقديم خطط تسمح بوضع خريطة طريقة واضحة المعالم، ذهبت بعض الاصوات الى حد المزايدة حول المساندة القوية و الفاعلة التي قد يكون مستفاد منها داخل صفوف الجيش. مرة أخرى، و في غياب فرص استدعائه للحسم إزاء برامج سياسية، يجد المواطن نفسه مدعوّا للتنازل عن حقه في الإختيار الحر لصالح طوائف قد تضمن له حقوقه و حريّته. المخاطرة الروسية لم تتوقّف بعد.
بالإضافة إلى عدم وجود ما يؤكد هذه الأقاويل، يجب إعادة التأكيد أن المساومات داخل الغرف العسكريّة ليست الحل الأمثل بل هي سبب المحنة الوطنيّة. و لو افترضنا أن هذه المساندة العسكرية صحيحة و مؤكدة، فإنّ المستفيد منها يصبح لا محالة رهينة بين أيديهم، و هذا هو مصدر الأمر الراهن في الجزائر. هناك من قد يقول مسبقا أن المساند له إمكانية التحرر من القيود و ترشيد البلد نحو تعاملات نظيفة و شفافة. و لكن لو رجعنا إلى التجارب السابقة، يظهر لنا جليا أن الرهان فيه مغامرة. فلا بن بلة و لا الشادلي و لا زروال استطاع تحرير نفسه من علاقات خطيرة تربطهم بمن حملوهم إلى السلطة. الوحيد الذي ضمن بقاءه في حضن مسانديه هو بوتفليقة، و هو أحد صناع زمرة وجدة العسكرية. بوتفليقة أخذ مسؤولياته اتجاه مسانديه في العسكر و تجاوب مع كل طلبات الجنرالات إن لم يكن استبقها. تخصيص 12 مليار دولار لصالح قطاع الدفاع الوطني في وقت أزمة اقتصادية حادة دليل قاطع على كون السلطة تسيرها مجموعة عسكرية مهيمنة.
بعض من الناس ، أخذتهم أوهام المعجزات و بدؤوا يحلمون باتاتورك جزائري. لا أقصد تجريح أحد إن شدّدت على العوامل التي تميز جيش اتاتورك عن جيش بومدين ، الذي تم هيكلته و تسييره بطريقة لا تقبل أن يعتلي في المؤسسة أي رأس مدبّر. مع اتاتورك، استطاع الجيش التركي أن يستوعب مرحلة انتهاء الإمبراطورية العثمانية. أما الجيش الجزائري، فقد استحوذ على الحكم لفرض الاشتراكية الإسلامية كقالب إيديولوجي و مستنقع ازدهرت داخله كل الخلافات المظلمة.
سجلنا إلى هذه اللحظة أن كل المتدخلين لازموا السطحية في قضايا بقيت عالقة منذ الإستقلال رغم أنها قضايا تناشد ردودا مستعجلة و دقيقة.
التدخل الوحيد و اللائق في مجتمعات مشلولة مثلنا هو وضع الجيش حد لمناورته. و لكن من المستبعد أن يخطو الجيش الجزائري خطو الجيش البرتغالي الذي حلّ النظام السالازاري الجائر. إننا ندور في حلقة مفرغة.
الحلول الزائفة
إن نداء أول نوفمبر ، كونه نداء للثورة المسلحة من أجل التحرير الوطني، لا يمكن إلا أن يكون نصا خاصا و مفتاحا سياسيا عاما موجّها للتعبئة العامة و المستعجلة للجزائريين في ظرف تاريخي تعرف فيه القضية الوطنية مخاضا عصيبا تميزه توترات حتى بين المناضلين الأكثرتحمسا. فنداء أول نوفمبر غير ملزم كبرنامج و لايحمل في ثناياه أي قيد تخص السلطة، أهدافها أو مراقبتها. فكل المتنافسين يستدلون به لأنهم لا يريدون و لا يستطيعون تبني خيارات مؤسساتية و اجتماعية و جيوسياسية التي هي نبض الدول العصريّة. في المجالس الخاصة كثير من المناضلين النزهاء يمتعضون من هذا الارتباك و ما ينجر عنه من انزلاقات و لكن قليل منهم من يصرّح علنا عن خذلانه و غضبه.
بخصوص هذا الموضوع، كل واحد يقدر أن يؤكد أن أرضية مؤتمر الصومام، التي حولت انتفاضة إلى ثورة، قد تم تحييدها في النقاش الحاصل. إن هذه الوثيقة ، التي لا يجب شيطنتها و لا تقديسها، بقيت إلى اليوم العمل السياسي الوحيد الذي وضع قبل الاستقلال أسس برنامج المجتمع الذي انخرط من أجله جل الجزائريين. إن توجيهات و هياكل مؤتمر أوت 1956 هي من أطرت و أوصلت الكفاح الجزائري إلى التتويج. و لكن تم تحييد و عزل هذا التفاهم بانقلاب تمّ في أوت 1957 بالقاهرة. و خلافا لما يروج هنا و هناك، لم يكن الإنقلاب بسبب اختلاف في الطباع أو لاستحالة التوفيق بين طموحات متناحرة. نعلم اليوم أن هذه المعطيات الجانبية تمّ تضخيمها و استغلالها من طرف قوى أجنبية لوضع الجزائر في فلك الفكر الواحد و التسيير بالقوة العاتية و تغيير وجهة حركة استطاعت أن تجمع في عز الحرب حساسيات مختلفة.
في هذه الأوقات التي تلاشى فيه الضمير الوطني الجزائري، يستلزم على الجميع عدم تغذية مغالطات بديلة تتجلّى في زرع تقاليد سياسية كانت سببا رئيسا في حالة الجمود الذي نعيشه.
إن رفض طرح كل الأحداث و الأفعال التي أدت بنا إلى الهاوية على الطاولة بدافع العجز الفكري أو بدافع الخدعة ، وكذلك كبتها خوفا أو إحساسا بالذنب هي الوسيلة الفضلى لتسريع الإنفجار الذي نتوقّعه جميعا.
إننا في وقت لا تنفع فيه الرقابة و لا المراوغات. إن المرحلة و الثورة الرقمية و إزالة الغموض عن الحرب حرّرت الكلمة. من شأن الطابوهات أن تمنع البلاد من بناء نفسها و لكنها لن تمنع الحقائق من الوصول إلى ذاكرة شبانية ترفض التجنيد.
هذه البديهيات لم تضفي بضلالها على العمل السياسي الحالي. و نظرا لانعدام الشجاعة أو عدم التمكن، القليل مما قُدّم كبرامج ما هو إلّا نسخ باهتة لبرنامج الأفلان : إرادة الغوص أكثر في عالم عربي متآكل ، تقديم البعد الديني كقاعدة تحريرية حصرية للمجموعة الوطنية، التركيز على مطالب كانت في أوجها في ايام ما بعد التحرر و أصبحت اليوم منتهية الصلاحية و التباهي بامتيازات حكم الاعدام في وقت اثبتت الدراسات ان حكم الإعدام غير مجدي ، كلها عناوين تثبت هشاشة الخطاب الذي طالما رافق النظام الجزائري. إن مثل هذه الأفكار شوشت الساحة السياسة و أصبحت اليوم سامّة كونها تحمل في طياتها شحنة غير منطقية تحجم العقل و الحرية التي تعتبر من الأدوات التي يجب أن نواجه بها الواقع السياسي.
إدامة الجرأة
إضافة إلى تجاهل المسألة البيئية التي تحضر لنا استفاقة مروعة و أليمة، غاب أيضا ملف إحياء مشروع بناء شمال إفريقيا ديمقراطي. و هُم منخرطون في نزاع يجهل القواعد الاقتصادية الأساسية ، و مقيّدون بإرهاب سياسي يرعاه عرّاب يسهرون على مصالحهم المافياوية، يتهرب المتنافسون في هذه الإنتخابات حتى من مبدأ إعادة فتح رزنامة ورشة يرتبط بها مصير منطقة ّ نحن أحد أبرز أقطابها الذي عليه واجب فك قيودها القاتلة.
في هذه الظروف الحرجة، أوكلت لمنطقة كانت إلى الحين أحسن مخبر للمبادرات و التطلعات السياسية المتجددة للبلد، مهمة جديدة غير عملية.
ممثلة بنفاياها ، استغلت منطقة القبائل كبهار فولكلوري في الطبخة السياسية للسلطة، وهي تُقدّم حاليا كعنصر فاعل في عمل نهب الثروة الوطنية ، و هذا تزامنا مع تلويث النضال الديمقراطي الذي طالما قامت به. أراد بومدين إسكات منطقة القبائل، و ها هو بوتفليقة يضع كهدف رئيسي تشويهها. و عندما نشاهد حيوية المقاهي الثقافية و إصرار لجان القرى، يسهل علينا استنتاج أن مآرب السلطة و إن سخرت وسائل ضخمة، فشلت فشلا ذريعا. و عموما، بيّنت هجرة الشباب نحو الشمال و ديمومة إحتجاجاته في الجنوب الفشل الذريع لنموذج الآفلان. و من جهتها، أكدت الجالية الجزائرية استعدادها رغم حملات التشهير بها.
من أي زاوية نظرنا إلى الحالة السياسية، نجد أن الإصلاحات الموعودة من داخل النظام مجرد أوهام و أنها غير مدرجة أصلا في أجندة السلطة. و الجدير بالذكر أن كل الطاقات الموجبة تولد و تنظم و تعبر عن نفسها في فضاءات حرة تسيّر نفسها بنفسها.
من هنا نرى محاميي القضايا الخاسرة يؤشرون على قساوة التحليل الحالي. إنه جهل بالطبيعة الحقيقية للإشكاليات التي تثقل كاهل مستقبلنا،و بحجم تفاعلاتها الخفية و تداعيات ما تصبو إليه.
مع وطنيين آخرين، شارك كاتب هذه المساهمة في فعاليات و منافسات في إطار مؤسساتي وكان متحليا بالصبر، قال عنه البعض سذاجة، أمام كل الصعوبات التي تواجه بناء أمة فتيّة. و أتانا اليقين أن النظام الجزائري غير قابل للتعديل. و قد تم التذكير أخيرا أن اشتراط تسليم محاضر الفرز لم يمنع الإدارة من بعث محاضر مخالفة لتثمين النتائج النهائية. و نتذكر جيدا أن التنصيب الرسمي و العلني للجان اصلاح المدرسة و العدالة و الدولة كشرط للالتحاق بالحكومة لم تؤتي أكلها. و قائمة الوعود الغير مطبقة طويلة.
هل يجب التذكير أن السلطة لم تتبنى ،إلا آجلا و بالتلاعب، ملفات التعددية و حقوق الانسان و الهوية الوطنية و ذلك بعد نضال مرير و تضحيات جسام ؟ ككل شيء تنازلت عنه السلطة بسوء نية، تفاعلت معه بطريقة تقليدية و في بعض الأحيان بطريقة أبشع من عمليات القمع. و رغم ذلك، و بفضل النضال الجريء، استطاعت الأمة بقدر ما تستطيع التطرق إلى كل ما يمس خصوصيتها السياسية و المجتمعاتية. إن هذه الخطوات نحو الأمام هي نتاج نضال حر و متقدّم يستوجب مشاطرته مع أكبر عدد ممكن. إن الانتفاضة خارج ديار النظام ليس تعبيرا عن يأس و لا مزايدة و لا تشدّد.
في مواجهة القدر
التخطيط لقدر جديد لن يكون من قبل النظام. فهو لا يعرف و لا يقدر على ذلك. إن اكثر ما يمكن أن نفعله اتجاهه هو إشراكه في عملية خروج مشرّف ترسّم لنهاية حقبة حكمه. لا يوجد أدنى مكسب ذُكر من قبل أتى طواعية من لدن هذا النظام. و كذلك الحال في عملية البحث عن نظام وطني جديد طالما نادى به معارضون واقعيون. و لكن إن انتظرنا أن ينصاع النظام للمطلب، يكون الوقت قد داهمنا. نستطيع دائما أن نلحق بالوقت إن ضاع أو أن نغير المسار إن انحرف في أي ورشة مهما كان حجمها و تشعبت تركيبتها، و لكن التاريخ قلّما أعطانا أمثلة عن أمم أعيد بعثها بعدما سقطت. و المعضلة أننا أمام مصير أمة يُلعَب به تحت أعيننا.
إن فزاعة الخطر الإسلاموي التي قد تُرفع غير واردة ما لم يستعملها النظام كمناورة لتبرير بقائه رغم سلبية حصيلته. فرض دفتر شروط تكون فيه المبادئ الديمقراطية مسلّمات يلتزم بها أي متنافس أمر ممكن فعله و هو مجرب بنجاح عند جيراننا. أمام رهان المصير الوطني، تبقى محطة 18 أفريل مجرد ظاهرة جزئية. إن الذين تجاهلوا دروس الماضي و انخرطوا في العملية، يسجلون يوميا مدى تفاهة مزاحمة طيف تمثله صورة، و في عقر داره. إن انسحابهم في آخر لحظة أو التنديد بالعملية ليلة صدور النتائج أقل ما يقال عنه مزحة. إن القضية الأساسية و الاستعجالية في مقام آخر.
الآن و قد خضعنا لمذلات قلّما تقبل شعوب تحمّلها ، الآن و قد ذاب الطلاء الذي زيننا به أوجهنا، الآن و قد أصبح الفخر المختلط بالعنصرية الذي نقابل به إخواننا من جنوب الصحراء ممنوعا علينا ، حان الوقت لكي ننظر لأنفسنا على حقيقتها قبل أن نواجه نظرات أولادنا.
ليس لنا غير خيار إعادة التفكير في أنفسنا عبر قيّم جديدة و حسب ميكانزمات عملية بعيدة عن المصطلحات السياسية للنظام.
المعركة ستكون شرسة. و لكن هذا لا يعني أنها لن تكون منصفة إن أعددنا لها العدة اللازمة بطريقة واضحة و ممنهجة. معلوم عند الجميع أن المعارك الخاسرة هي تلك التي لم يتم خوضها يوما. للذين ابهرتهم تهديدات رجالات الأجهزة أن النظام قادر على احتواء الشارع، يتوجب تذكيرهم بحقيقة تاريخية : لم ينتزع الشعب الجزائري استقلاله لأنه كان يكسب قوة أكبرمن قوة الجيش الفرنسي. و لكنه تحرر يوم فهم أن لا أمل في النظام الاستعماري.
الجزائر في 13 فيفري 2019
سعيد سعدي