كلمة تمهيدية لمنتدى ” ليبرتي ” في 13 مارس 2019
من إنتفاضة شعبية إلى ثورة ديمقراطية
تحويل رفض إلى مشروع
في ظرف ثلاثة أسابيع، استطاعت شبيبتنا إعادة الإعتبار لشرف ، سمعة و مكانة البلد التي لطخها أكثر من نصف قرن من القهر. برسالة سيريالية، أرجعنا رئيس الدولة إلى خانة دول الموز.
هذا هو الإحساس الذي راودني و أنا أقرأ ثلاث مرات إعلان رئيس الدولة و الذي يتمّ تسجيله، لا محالة، في حوليات النفس الهزيل للأنظمة الشخصية التي تلفظ آخر انفاسها.
لنقولها مسبقا، إن فشلت الإرادة الشعبية، ستفوز الزمرة الحاكمة و ستحل الفوضى التي هدد بها، بلا جدوى، المواطن و لكنه توصّل إلى تسويقها لبعض الشركاء. و سيكون ذلك مرعبا للجزائر و كل منطقة شمال إفريقيا.
نعلم جميعا أن جودة أي مبادرة سياسية متعلقة أساسا بسمعة صاحبها، انسجام رسالته، الطريقة التي قدمت بها و التوقيت الذي تمّ فيه بعثها. لا وجود لمعيار واحد مما سبق يرافع لفائدة الرقصة البهلوانية الأخيرة لرئيس الدولة. و التحليل الأولي لهذه الإعتبارات يجعلها تكتسي طابعا تحقيريا، و دون الأخذ بعين الاعتبار الماضي الحافل بوعود سابقة لم يتم الوفاء بها من طرف رجل معروف بتقلباته.
ضننا أننا لمسنا القاع، بعد التهديدات المباشرة الموجهة للرئيس السابق للمجلس الشعبي الوطني قصد الانسحاب من الانتخابات و هو الذي أودع ملف ترشحه، دقائق من قبل، لدى المجلس الدستوري.
الحقيقة لا. من أجل تحدي الإهانة الوطنية، النظام له القدرات الكافية لذلك.
لقد سبق للمحررين الصحافيين أن فضحوا الخروقات العديدة التي مورست في يوم واحد باسم الدولة الجزائرية. الغاء الإنتخاب الذي يعود، طبعا، للمجلس الدستوري، تمديد العهدة الرئاسية لأجال أسندت مدتها لشخص يطلب الشعب رحيله، تعيين وزير داخلية ،وهو فاعل أساسي في عمليات التزوير و محرّر وفير للقوانين الجائرة، كرئيس حكومة يسند له مبادرة التجديد. و كل هذا مرفوق بمعلومة شبه خيالية مفادها أنه لم يكن هناك قط نية الذهاب إلى عهدة خامسة.
كلها قرارات توضّح نهاية صلاحية النظام و إصراره على مواصلة تشويه صورة الدولة التي يبقى الشارع، أي الشعب، وحده من يحاول إعادة الاعتبار لها عبر تجنيد مشرف و سخي و مناسب سياسيا بما أن رسالاته تقول : نهاية النظام.
في مساهمة نشرت يوم 13 فيفري الماضي، كتبت : التخطيط لقدر جديد لن يكون من صنع السلطة. لا يعرف و لن يريد فعله. في أحسن الأحوال، يمكن اشراكه في إيجاد مخرج مشرف يوثق نهاية حقبته.
يجب ان نتوجه نحو هذا الخطو المُنجي الداعي لإعادة التأسيس الوطني بكل تواضع و وفاء لأننا أمام فرصة تاريخية تشبه المعجزة. و نعرف جميعا أن المعجزات مبهرة و هشة في آن واحد. هناك أشياء جميلة قد تتحقق في وقت قصير. و لكن بين الفينة و الأخرى، كل شيئ قد يتبخر إن لم نستجب كما يجب للظروف التي أفرزها القدر.
مهمتنا أن نقوم بكل شيئ، كل على مستواه، لكي تصل هذه المسيرة التارخية إلى بر الأمان.
يجب على الجيل القديم أن ينسحب. حتى جيلي يجب أن يعرف أن يكون سندا دون أن تكون له طموحات في تقلد السلطة. دورنا المساعدة، ان كان ممكنا و ضروريا، في اجتياز الجسر و ليس السعي نحو تقلد المسؤوليات الهيكلية أو التنفيذية. و هذا هو، على كل حال، تصوري لمكانتي اليوم.
قبل الخوض في كيفية إطلاق نقاش خصب يمدّد الانتفاضة الشعبية الحالية، يجب ، ربما، التطرق في كلمات لما يجب عمله لتفادي وضعيات قد يأخذ بقطار الأمل نحو محطات غير مرغوب فيها أو، ربما، نحو الأنحراف.
يجب ان نعي جيدا أن ما يحدث حاليا هو البحث عن تأسيس وطني شامل و غير مسبوق. و هذا يفوق مسالة البرامج الحزبية و الوظيفية.
المسألة جادة و معقدة، و الأجدر التأكيد عليها حتى تترسخ في عقلية كل واحد منا هذه النقطة الحساسة التي يجب أن نصوّب نحوها كل أفكارنا و نركز عليها كل قوانا.
كل واحد لاحظ أن المراحل الانتقالية يسهل مباشرتها و يصعب إنهاءها. و من الأهمية بمكان أن يعلم الشعب الجزائري أنه، و في هذه المرحلة التاريخية، متواجد وحده أمام قدره. و كان هذا حاله في الحركة التحررية ضد المستعمر و أيام العشرية السوداء.
العبء ثقيل جدا و لكن الجزائري يعرف أن يكون حاضرا، سخيا و ناجعا أمام التحديات الكبرى. و لكن هذا المعطى لا يمنعنا من البقاء حذيرين و في الإستماع.
رغم ظهور السلطة مفصولة تماما عن الحقائق السياسية و الاجتماعية للوطن و تقهقرها اليومي بفعل مبادراتها و تصريحاتها، إلا أنه لا يجب التقليل من المناورات الخفية التي قد يقوم بها فاعلون و هياكل موازية نسجوا شبكات، بنوا قدرات و جمعوا ثرواتهم في ثنايا هذا النظام او في جنباته. و لم يبق لهم اليوم سوى الانصهار في الديناميكية الشعبية لتغيير مسارها، و لما لا، إبطال أهدافها.
يكفي الإصغاء لبعض الموالين، القاء نظرة على بعض المواقع أو تتبع ما تبث بعض بلاطوهات التلفزيونات الشبه عمومية للتأكد من أهداف بعض الشعارات التي تسربها بعض الغرف.
غير قادرين على انقاذ النظام، ها هم يحاولون التقليل من شأن الطبقة السياسية بالخلط بين السلطة و المعارضة. القاعدة لم تتغير و عناصرها تسرب بخطة محكمة و دائمة . ” لا توجد معارضة و لا معارضين” أو ” كل السياسيين سواسية” ،إنها الطبخة السياسية لمديرية الاستعلامات و الأمن التي يتم تسخينها و تعقيرها من أجل متطلبات قضيتهم.
ما هو هدف هذه المخابر ؟
منع تواصل الشباب مع من أمضى عشرات السنين في الحفاظ على شمعة الأمل مضيئة و نسيان انّ بعضهم أفدى بحياته للوصول أخيرا إلى هذه المحطة الرائعة.
إن هذا العمل الرامي لشيطنة النضالات السابقة من أجل بدائل ديمقراطية و إرادة تقسيم التجارب يراد من ورائه عزل حراك 22 فيفري لجعله حدثا هيوليا غير محدد المعالم و غير مشخص، يتم إضعافه لاحقا أو التلاعب به.
كيف ؟
كل مواطن نظيف يجب أن يأتي بحصته من الحقيقة في هذه اللحظة التاريخية لتتحول هذه الانتفاضة المواطنية إلى ثورة ديمقراطية. يجب علينا أن نبقى ملتزمين قدر الأمكان للتحرك سريعا لأن الوقت يداهمنا و العمل بأحسن ما نستطيع لأن نهضة الأمة دائما ما يكون مخاضا عسيرا. إننا ورثنا بلدا مدمرا و آثار طبع النقود قد تكون مرعبة. كل يوم يحتسب.
في الاسابيع الاخيرة، هناك افكار قدمت هنا و هناك. ما زالت عامة و لكن لا نمنع أنفسنا من التلذذ بها ما دامت بناءة ، خاصة أنها كانت بالامس مبعثرة و معرضة للتهجم فاصبحت اليوم محل اجماع.
لنتعلم الاستماع كي نناقش و لنتفق أولا على ما يجمعنا. لنستمع لكل صوت مهما كان مصدره و هدفه شريطة أن يكون في محور متطلب الساعة : فتح صفحة جديدة يقدم أطرا مناسبة للتعبير و لتطور جزائر جديدة.
1) المرحلة الانتقالية كبوابة تسمح بفتح نقاشات تؤشر لانطلاقة جديدة أصبحت فكرة مقبولة
2) استقالة رئيس الدولة و حكومته قبل تشكيل حكومة تسيير القضايا اليومية ( حكومة انتقالية، حكومة وحدة وطنية، مداومة ..) مسالة تم إدراجها في المسار البديل.
3) تشكيل فريق أو ثنائي مكلف بالتمثيل الرمزي للدولة فكرة مقبولة أيضا.
4) فكرة لجنة تنظيم و ليست فقط مراقبة الإنتخابات من أجل ضمان شفافية و نزاهة تعبير السيادة الشعبية أصبح لها معنى.
5) و أخيرا تحديد المسلمات الديمقراطية التي يتوجب على كل منافس الالتزام بها، فكرة مرحب بها لدى معظم الفاعلين السياسيين.
هذه العناصر التي حمتلها طويلا المعارضة الديمقراطية ، في ظل تجاهل الكثير ، تعتبر قاعدة ملائمة للتقدم نحو الأمام. و على هذه المكاسب ، يجب يستند الحراك الشعبي لكي لا يتيه في المسارات الشعبوية و مخاطر التعب التي تهدد كل الديناميكيات المناهضة التي تغلق على نفسها في الرفض و غياب البدائل.
و من جهتها، للطبقة السياسية ما تتعلم من هذا الحراك. القدرة على تجاوز الاختلافات لجمع القوى و الذكاء ، تأكيد التقابل و التسامح التي أبعدت الكراهية هي اسمنت هذه الدينامكية التي فيها تعاليم غنية للمستقبل القريب.
إن نبل قيام المدون مرزوق تواتي بالسماح علنا للقاضي الذي أدانه بالباطل لا يجب النظر إليه على أساس أنه عمل رمزي بل هو تعبير صريح عن بيداغوجيا سياسية جديدة
شاركت في المسيرات الثلاث بالعاصمة . رأيت الالتزام، الإنتظار، و أحيانا فقدان الصبر و حتى الغضب و لكن لم أرى الكراهية. و يجب أن يلهم هذا الأمر جميع السياسيين. تعلم النشأة و العيش معا في احترام متبادل يعتبر أمر طبيعي و حيوي. إن هذا المكسب الثمين الذي عشناه في المسيرات، يجب حمايته و تقويته لينتشر على مستوى كل نطاقات الحياة العامة.
و أخيرا هناك دور الجيش في المرحلة الراهنة
مجتمع جديد في الطريق و سيولد جزائر جديدة. هذه المسيرة قد توثق لنهاية الجيش السياسي و تحكمه على الأمة. و من لم يفهم هذا النداء يبقى دوما في الجانب السفلي من التاريخ.
إن التدخلات المتردّدة و الغير صائبة و المتناقضة لقائد الأركان تعكس موازين القوى التي يتخبط فيها النظام ، و التي بفعل شفعة العسكر، أخذت الأمة رهينة لديها. كل هذا يجب أن ينتهي من أجل خير البلد، من أجل خير الجيش، و خاصة لأنه من واجب من استعملوا هذه المؤسسة من منطلق مراتبهم و مصالحهم و مصالح من يمثلون، أن يفهموا أن لا خيار لهم غير خدمة الشعب.
صفحة الجيش الجزائري تغيرت أيضا.
سمعت مؤخرا كلمات صدمت ضمير المواطنين و جرحت كل وطني. ليس الجيش من يصدر الاحكام على شعبه أو أن يفتخر به. بل الشعب من يفتخر بجيشه شريطة أن يستهل ذلك.
حان الوقت أن يكون فيه وزير الدفاع مدنيا يحكم ضباطا بصفته عضو في حكومة منتخبة ديمقراطيا. لأنه منبثق من إرادة شعبية. و الجندي لا يتشرف إلا عندما يكون في خدمة المواطن. إلى هذه اللحظة لم نعرف من كل هذا إلا العكس.
الجيش الجزائري ، ككل ما يناشده هذا الحراك، ملزم بالتغيير. يجب أن يكون عاكسا لشعب شاب، عصري و حاليا واثق من حقوقه.
هذه هي الثورة الديمقراطية التي تتولد في أحضان هذه الانتفاضة المواطنية التي تجري تحت أعيننا.
قليل من الشعوب من تقدر القيام بما يقوم بها الشعب الجزائري حاليا.
رغم قلة العدة و محنه، استطاعت الثورة الجزائرية ، بدفع ثمن باهض، أن تصل إلى محطتها النهائية بفضل أبناء الشعب الذين عرفوا التقاط و و ترجمة نداء مكبوت عبر أجيال عديدة ، و إعطاء العالم درسا في التلاحم الشعبي و الوفاء و الشجاعة الجماعية.
عكس ما روجت له الدعاية الاستعمارية، لم تكن الثورة الجزائرية مسيرة عن بعد من قبل القاهرة أو موسكو. فلا كروتشيف و لا عبد الناصر أثّروا إيجابا على تخطيط و تنظيم و تسيير حربنا التحريرية سياسيا و لا عسكريا. يكفي الاستماع لتصريحات رئيس الدولة المصري الحالي كي نفهم أن تطلعاتنا لم تصهر ثقافيا في نفس الوعاء. أخرجت مصر مبارك لترجع إلى السيسي بعد فترة اسلامية لم تعرف كيف أن تكبح ميولها الشمولية.
نظرا لما علمني كفاحي الخاص و لما أراه في عنفوان الشباب ، و أقول ما أفكر فيه، نحن قادرون على خلق و إتمام ما لم تستطع شعوب المنطقة القيام به
إن الثورة الديمقراطية التي تكرس هبة 22 فيفري ليست ، في الحقيقة، سوى ترسيخ لعادة من نضالات غير معهودة كانت العبقرية الجزائرية ، من القلائل التي تجرأت و عرفت تفجيرها.
من الناحية التطبيقية، و ربما هنا تكون مساهمتنا حاسمة، يجب على الحركات التنديدية الضخمة أن تتواصل. عبر المسيرات و كذلك الإضرابات التي يجب دراسة ترتيباتها.
شعارات العصيان المدني أطلقت. الكلمات لها مدلولها. إن العصيان المدني مرحلة قصوى من المناهضة تجنبتها حتى جبهة التحرير أثناء الثورة.
يؤسفني ان اقول كلاما بكل قساوته سيما عندما يتعلق الأمر بالتطرق للأشخاص. و لكن عندما يتعلق الأمر بشخص تقلد أعلى مناصب الدولة لمدة عشرين سنة و يريد الاستحواذ عليه، تبقى الرهانات مهمة لا تسمح باخذ احتياطات كلامية. بوتفليقة ، لاسباب ذاتية و موضوعية، لن يرحل دون ميزان قوى تفرض عليه الاستسلام. لقد برهن مرة أخرى تعلقه بالسلطة. و لهذا لا يجب فقط مواصلة الضغط بل يجب زيادة مفعوله حتى يرحل.
خاصة و أن الجيش يعطي شعورا أنه، إلى هذه اللحظة، يفضل مساندة شخص و زمرته بدل الوقوف بجانب الشعب. مما يجعل التزام ، تعبئة و تأطير شعبنا أمرا ضروريا.
إن الأفكار و الإرادة التي تسمح بفتح حوار من أجل جزائر جديدة موجودة و الميكانزمات القادرة على تأطيرها بدأت تلوح في الأفق. الفرصة التاريخية منحها لنا شبابنا.
إن الجزائر الرسمية ضنت أنها قادرة على التحايل مع التاريخ برفضها التعامل مع المشاكل التي لم تعرف كيفية الأخذ بها غداة الثورة. لقد أرادوا تسيير المتطلبات السياسية عبر انقلابات . رقعوا بمجلس الثورة، غالطوا بالميثاق الوطني، ارتجلوا بالمجلس الأعلى للدولة. كل المناورات تم استنفاذها.
ساعة الحقيقة دقت.
لايمكن و لا يجب على أي وطني أن يتهرّب من هذا التحدي.
سعيد سعدي