ألقى أحمد طالب الإبراهيمي بمعية المحامي علي يحيى عبد النور و الجنرال السابق رشيد بن يلّس مبادرة سياسية مفادها بدأ حوار مباشر بين قيادة الجيش و ممثلين عن الحراك الشعبي و الطبقة السياسية المساندة للحراك. قد تكون نيّة الثلاثي صافية و خاليّة من كلّ حسابات. و لكن المبادرة، و إن بدت في ظاهرها مريحة و حلّا للأزمة، فإنها تحمل في بواطنها مخاطر جمّة لم يتطفّن لها أصحابها.
إن أي حوار ، و مهما كان موضوعه و محتواه و نوعيّة أطرافه يبقى عمليّة مدّ و جزر في المطالب، تحتمل النجاح و لمّ الشمل من جهة ، و الفشل الذريع و النفور من جهة أخرى. و هنا موطن الخوف على الوطن. إنّ وضع الجيش كمؤسّسة وطنية حامية للبلاد و ساهرة على أمنها قبالة شعبه في طاولة مفاوضات أمر خطير للغاية. إن نجحت المفاوضات، اشتدّ عود الوطن و خرجت الجزائر غانمة. و إن فشلت و تصادمت المواقف فمرحبا بالكارثة. فهل تستحق الحال الذهاب إلى هكذا مجازفة و طرح مستقبل أجيال بكاملها على طاولة النرد ؟
إن الأزمة سياسية بحتة و ناجمة أساسا عن غزو المؤسسة العسكريّة للساحة السياسية منذ 1962 و تراكم تدخّلات القيادة العسكرية في حلّ و ربط الأمور العامة دون الاكتراث برأي الشعب و توجّهاته السياسية. فالمؤسسة العسكريّة تربّت على هذه الحالة، و بسط أذرعها في الشأن السياسي أصبح بمرور الوقت و تتابع الانقلابات شبه فلسفة حياة لدى قيادتها. و أيّ حوار مباشر معها حول ضرورة رفع أقدامها نهائيا عن العمل السياسي قد يلقى مقاومة شرسة قد تصل إلى حد الصدام إن لم يذعن أي طرف إلى التنازل عن حقّه. و هنا الكارثة بعينها.
إنّ الحراك الشعبي يطالب برحيل النظام بأكمله. شعار ” يتنحّاو قاع ” لا تعني فقط الأشخاص بعينها و لكن طريقة تسيير المؤسسات و معايير و ميكانزمات تعيين المسؤولين. الحراك الشعبي يطالب بإقامة جمهورية جديدة يعرف فيها العسكر حدوده و يضمن فيها الشعب حريّته و سيادته في اختيار ممثليه و البرامج التي تليق به. إن الدفع بممثلّي الحراك للمفاوضات مع الجيش يضع الممثلين أمام خيارين حاملين للمخاطر : الإصرار على تجسيد مطالب الحراك أمام التعنّت المحتمل لقيادة الجيش على التشبث بعقيدته التاريخيّة و المتمثلة بواجب لعب دور الوكيل على الشعب، ومنه فشل المفاوضات و دخول الشعب في حالة تصادم مع المؤسسة العسكرية. و هنا الخطر الجسيم. و الخيار الثاني يتمثّل في تنازل ممثلي الحراك عن مبدا أولويّة المدني على العسكر لتجنب المواجهة و الصدام و تعميق الأزمة. و في هذا الخيار فشل ذريع لمشروع بناء الجمهوريّة الجديدة و تجديد غير مباشر للنظام البائد.
الحلّ الأمثل يكون في إبعاد المؤسسة العسكريّة عن التجاذبات السياسيّة و المرور إلى مرحلة انتقاليّة تسيّرها شخصيات وطنيّة تنتخبها الأسلاك المهنيّة الكبرى كسلك القضاة، سلك الأساتذة الجامعيين، سلك النقابات الحرة… . منتخبو الأسلاك يشكّلون حكومة تصريف اعمال و لجنة وطنيّة حقوقيّة تقوم بدباجة دستور جديد و قانون انتخابات جديد و ميثاق وطني يحدّد الشروط الديمقراطيّة المسبّقة لأي مترشح حزبي أو حرّ لأي انتخابات مستقبليّة كانت، و يتمّ تقديم كل هذه المشاريع القانونيّة للاستفتاء الشعبي. بعدها يقوم منتخبو الأسلاك بتشكيل لجنة وطنيّة لتنظيم الانتخابات وفق القوانين الجديدة و الدستور الجديد. إنها العمليّة السياسية الوحيدة التي تضمن المرور من نظام سياسي فاسد إلى نظام جمهوري ديمقراطي واعد دون الزجّ بالجيش الوطني الشعبي في متاهات السياسة و وضع البلاد على حافة الهاويّة.
أمياس مدور