محاضرة الدكتور سعيد سعدي حول جذور الحراك الشعبي و مدلولاته ( النص الكامل )

ألقى الدكتور سعيد سعدي ، يوم الخميس الماضي ، محاضرة قيّمة في جامعة تيزي وزو، تطرّق فيها لجذور الانتفاضة الشعبية الحالية ، و وضع موازنة جد هامة بين ما حدث في حركة أفريل 1980 و ما يقوم به حراك فيفري 2019. كما تناول المحاضر آليات الدفع بالحراك الحالي الحامل لمشروع دستوري جديد نحو مرحلة انتقالية ناجحة بكل المعايير. و عرّج على مخاطر إعطاء مفاتيح المرحلة الانتقالية للمؤسسة العسكرية أو خيار حل المجلس التأسيسي في ضل غياب توافق مبدئي حول الشروط الديمقراطية المسبقة.

و نظرا لأهمية محتوى المحاضرة و كونها مساهمة جيدة لفهم مدلولات الحراك الحالي و ما يجب عمله تطبيقيا لإنجاح العملية الانتقالية و الخروج بمكاسب ديمقراطية عدّة، تنشر القلم النص الكامل للمحاضرة :

جذور و معنى تمرّد غير منتظر

 

مقدّمة

قبل أن أبدأ مداخلتي، أودّ أولا أن أحيّي المبادرين لهذه اللقاءات و الحوارات التي تعيدنا إلى تقاليد المبادلات الفكريّة في هذا المكان الرمز الذي منه انطلق كل شيء، و منه بدأ كلّ شيء. و فعلا، ففي هذه الحاضنة ، تمّ اتخاذ قرار دعوة كاتب يحمل بمفرده حقائقه في وقت كانت فيه ذهنيات، قد امتصّتها و كيّفتها التبعية الانتهازية،و انغمست في حالة الاستقالة أو الإستسلام أمام جبروت السلطة المطلقة

 

كان موضوع المحاضرة « القصائد القبائلية القديمة ». مُنعت تلك المحاضرة، و ما تلا ذلك معروف عند الجميع. و كانت الشعلة التي أوقدت مجمرة أفريل 1980 و التي هزّت، بالنضال السلمي ركائز نظام أوهم الجميع أنّه لن يُزحزح و لن يموت. و كان ذلك أول مرّة منذ الإستقلال، يسجّل فيه  انفجار شعبي يناهض علنا الفكر الأحادي. و من تلك اللحظة، لم يتوقّف صدع الحريات من التوسّع نحو مناطق و قطاعات أخرى و أخذ أحجام كبيرة. إن خصوصية أفريل 1980 تستوجب فهمها من منطلق أن الحركة لم تستهدف الاستيلاء المباشر على السلطة و لكنها كانت، أولا، ترمي إلى إحداث  تحويل اجتماعي بمقدوره الإتيان بإصلاحات ديمقراطية تُرجع السلطة للشعب. و في هذا الشأن، يبعث الربيع الامازيغي رسالة قوية للمستجدات الحالية التي يجب معرفة فكّ شفرتها لنضمن لها أفضل مخرج ممكن

فشل مشروع الدولة – الأمة

أعطت بذرة أفريل 1980 أشكالا نضالية جديدة تسير عليها المطالب التاريخية الحالية.

نستطيع أن نطابق، في اعتقادي، بين الغضب الذي أفرزه منع محاضرة مولود معمري و الشعور بالاحتقار و الذل الذي سبّبه إعلان العهدة الخامسة التي كانت تهدف لإيصال إطار إلى سدّة الحكم. و كان هاذين الإعتداءين بمثابة مؤشّرات على عجرفة نظام ضن أن كل شيئ متاح له، و من جهة أخرى حوافز غضب متراكم منذ عدّة سنين

و لكن بغض النظر عن ما أشعل الفتيل، فإن الجذور العميقة لهاتين اللحظتين ، أفريل 1980 و فيفري2019، المتوازيتين في أكثر من نقطة، تستدعي تساؤلات أكثر حدّة. أوّل التساؤلات، و من أهمّها، فشل الدولة – الأمة. المعضلة الحقيقية التي أعاقت الوطن دائما، و التي تطرح نفسها مرة أخرى، هي عدم انسجام و توافق الدولة مع المجتمع

ضنّ المسؤولون الذي استحوذوا على السلطة بالقوة في 1962 أنهم قادرون على إحداث ما لم يفلح فيه من قمعوهم بالأمس، فقاموا بعملية التطابق المؤسساتي. و بالفعل كان الشكل الإداري الجزائري يمليه عقدة المستعمَر الذي يطمح إلى التشبه بأسياده بدل ضرورة بناء دولة منسجمة مع تاريخ و نمط معيشة و متطلبات سكانها. إن هؤلاء القادة الغير مؤهلين سياسيا و الذين تحركهم روح الثأر، لم يروا في النموذج الفرنسي الذي بدا لهم مثلا أعلى في تنظيم الدولة، كونه حالة شاذة في العالم. من المهم فهم هذه العلّة الأصلية لنستطيع الخروج في أحسن الظروف و الأوقات من الأزمة التي نعيشها

أضن، و هذا رأي شخصي، أن الإطار السياسي و  الإداري المنسجم و الفعال الذي عرفته الجزائر المعاصرة هو ذلك الذي تمّ بلورته في مؤتمر الصومام في أوت 1956. إن التقسيم الترابي حسب المناطق الطبيعية الكبرى أظهر نجاعته العملاتية في وقت الثورة. و أقدّم هنا الأفكار التي فرضت نفسها عليّ في السجن، في 1986، عندما كنت أكتب مؤلّف « الفشل المتكرّر ؟ »

« منطقة القبائل التي تصبح لاحقا الولاية الثالثة تمّ الاعتراف بها منطقة كاملة. .. و نفس الأمر حصل في الولاية الأولى التي غطّت الأوراس …  الحفاظ على المساحات الطبيعية كان، بلا منازع، عاملا عسكريا و سياسيا مفصليا في كفاح جبهة و جيش التحرير الوطني. استقلالية التسيير، طريقة الاتصال القديمة التي يستوجب فقط استدعاؤها لمهام جديدة، التضامن الشعبي الجد حيوي في حرب العصابات كانت مكاسب أساسية لانتصار الشعب الجزائري »

هذا التحليل تمّ تأكيده لاحقا من طرف بن طوبال و هو فاعل أساسي إبان الثورة التحريرية. لقد ذكرت علنا  ما قاله لي في الموضوع و في أكثر من مناسبة .  لم يتردّد في القول انّ بيان أول نوفمبر لم يكن له ليعيش لولا هذا المؤتمر و توصياته التنظيمية و السياسية التي تمّت مصادقتها

طبيعي جدا، أن هذه الإستخلاصات لا تعني أن كل ما تم الخروج به في الصومام يجب أخذه بحذافيره اليوم. هذا التذكير يهدف فقط للقول أن التفكير السياسي الذي لا يخضع للإملاءات العُصبية ، و عندما يكون الصالح العام هو الدافع الوحيد،  ينتج لا محالة قرارا ملائما للمشاكل المطروحة

نستطيع التأكيد أن انتفاضات أفريل 1980 و فيفري 2019 ، و إن لم تكن منتظرة، كانت على الأقل في الحسبان. في كلتا الحالتين، ترجع الانتفاضة لعدم قدرة السلطات العمومية التكفّل بقضية المواطنة. لم تكن من مهام الدولة مراقبة و إخضاع الشعب. مهمتها الأولى هي وضع شروط تفتّح عبقريّة الجماعات الوطنية. و لهذا، يمكن القول أن ما حدث في منطقة القبائل في 1980 قد يحدث في كامل التراب الوطني

المذهل هو الطرق المتخذة لإطلاق هاتين الحركتين التحرريتين ، لأن كل الرهان يكمن هنا : تحرير الأمّة من شبكة إدارية اصطناعية و قسرية و إعطائها أطر بإمكانها ضمان تحرّرها و انسجامها

يجب التذكّر أن النضال السلمي كان مجهولا في التقاليد السياسية الوطنية التي تميّزت موازين قوى عنيفة و اختيارات مشتركة غامضة. و التعدّدية كانت دائما أمرا مقرونا بالتقسيم و الفوضى. و حاليا يعتبر التغيير الجذري نداءا للمغامرة. يكفي إعادة قراءة  أدبيات الحركة الوطنية أثناء أزمة 1949 لمعرفة كيفية التعامل مع التعبير الحر

و على كل حال، هناك تشابه كبير بين التبريرات التي واجهنا بها النظام في 1980 مع التي يقوم بتمريرها اليوم في محاولته تقليص أو تحوير الانتفاضة الشعبية الحالية

في 1980، كان يقال لنا أن موت الحزب الواحد يعني انتهاء الاستقرار و الانسجام الوطني. و نفس المصادر تقول اليوم أن لا شيئ ممكن بدون الجيش. هذه القوى المحافظة تؤكد أن الابتعاد عن الشكل الحالي للدولة يساوي حلّ المجموعة الوطنية.  و ليست هي المرة الأولى التي تتسارع فيها النخب وراء الأفكار و الأفعال المحرّرة للمواطنين

رغم مطالبة ملايين الجزائريين بالتغيير الجذري ، تأتي الإجابات المضنية للقادة كشهادة عن عدم قدرتهم فهم طبيعة و عمق المطلب المعبر عنه بالاجماع في كامل التراب الوطني منذ 22 فيفري

عند إنصاتنا لأصحاب السلطة، نجد أنفسنا وكأنّنا فقط أمام سوء تفاهم بسيط أو مجرد غلطة طفيفة في اختيار الممثلين يمكن تجاوزها بإعادة توزيع الأدوار أو باتخاذ إجراءات تجميلية في إطار القبضة التي خنقت المجتمع الجزائري منذ الاستقلال

و الحقيقة، أن الأمة في الشارع. تتبنى تنوعها، تسامحها، عصرنتها و تضامنها. و هذه الطاقة الحميدة لم تجد أبدا نُسخا لها في المؤسسات التي تمّ وضعها في 1962

العقبات الآنية

كم هم المسئولين أو الفاعلين السياسيين الذين بمقدورهم فهم التحولات التي ترمي لها الأزمة الحالية ؟ عدد قليل جدا. إن عقلية الأفلان، البدائية و المعقِمة، هيكلت الفكر حتى خارج نطاق الدوائر الرسمية. و يكفي للتأكد من هذا،  بالاستماع لصراخ بعض الأشخاص، الذين يتباهون ببعدهم عن النظام، كلّما تم طرح فرضية النظام الفيدرالي أو فكرة دولة الجهات

العمى السياسي الذي يمنع الاستشراف و الجرأة ليس مقصورا على أتباع السلطة. فاعلون يطلبون التغيير يطالبون بميلاد جمهورية ثانية، و كأننا عرفنا جمهورية أولى

كيف كانت هذه الجمهورية الأولى ؟ كيف تم هيكلتها ؟ حول أي قيم و من أجل أي أهداف تم تنظيم النظام الذي حكم منذ 1962

هل تؤسّس الانقلابات المتتالية والتزوير و الفساد المؤسّس جمهورية ؟ طبعا لا. افتتحت الجزائر استقلالها بانقلاب ضد الحكومة المؤقتة. تبعها مباشرة « دستور فاجر في قاعة سينما » كما قال فرحات عباس. بعد انقلاب 1965، جاء دور مجلس الثورة الذي أخذ شكل إطار تشريعي و لم يجتمع أبدا. و بعدها، أتى الميثاق الوطني الذي قرّر التخندق الاديولوجي العام المتكون من اليعقوبينية و اللينينية و الاسلاموية. و كان هناك دستور على مقاس رجل أراد، هو أيضا، الموت على كرسي السلطة. رويدا رويدا، عرف الوطن نوادي العشائرية ثم العائلية، و هي من أرذل عبارات تنظيم الدولة

لا. إننا لم نعرف جمهورية أولى . و تحدي الساعة ، الذي تصبو إليه الانتفاضة المبهرة، هو وضع لبنات و أسس الجمهورية.

كيف لنا الخروج من نظام أكل عليه الدهر و شرب،  و الذهاب نحو نظام يتناسب مع الحقائق الوطنية و ناجع في العالم العصري ؟

لإدارة كفاح بطريقة جيدة، يتطلب الأمر أولا تقييم الأوضاع بشكل صحيح كي نتفادى الآثار المشوّهة للممنوعات، و الميكانزمات التي تغذي و تضخم الرقابة الذاتية، و نتجنب الحلول الخاطئة. و هذا معناه وجوب قراءة سير المؤسسات منذ الاستقلال بطريقة عقلانية و، بعدها، الإستماع جيدا لنداء الشعب

لقد قلنا سابقا أن النظام الجزائري تأسّس بالعنف و في ضبابية تامة. و تم إدارته من طرف أوليغارشية عسكرية بوليسية هاضمة للميزانيات و تعيد نفسها اجتماعيا. و عليه يجب أوّلا تحرير الحياة العامة من قبضة العسكر

هناك توجه نحو الخضوع السياسي الذي يكبح فكر العديد من الفاعلين الذين تيقّنوا أن الخروج من الأزمة، أي إدارة المرحلة الإنتقالية ، تتطلّب مراقبة و تحكيم الجيش بحكم أن هذه المؤسسة هي العمود الفقري للدولة. و الحقيقة، أن أصل المشكلة يكمن في هذه المؤسسة. فالجيش الجزائري غير مؤهل لمرافقة الانتقال الديمقراطي.  فمن جهة، نجد قيادته السياسية تحت سيطرة ضباط لا يملكون من الزاد سوى خطابا شعبويا مناهضا لأي تفكير حول التأقلم الجمهوري.  قليل هم الضباط الذين حاولوا إقحام ممارسات تشجّع النقاش و الدراسات المبتكرة. و لكن غالبا ما يتم توجيههم نحو وظائف جانبية قبل إقصائهم نهائيا. و من جهة أخرى، تمّ تصميم هذه المؤسسة، التي تمّ خلطها بجيش الحدود منذ 1962، كأداة للاستيلاء على السلطة. إن المقاربة التي ترمي لإعطاء دور للجيش الوطني الشعبي، و هو غير مؤهل لذلك، قد يؤدّي إلى الغوص في هاوية قاتلة ، هذه المرّة

إن العوامل التي سمحت للنظام العسكري المتسلّط و العقيم بالتواجد لم تعد متاحة. و العمود الفقري الوحيد الذي يضمن الاستقرار المؤسساتي  و الديمومة الديمقراطية هي الإرادة الشعبية

و لا يمكن للإرادة الشعبية أن تكتمل ما لم نعطي المرأة ، التي تشكّل نصف هذا الشعب، كامل حقوقها. إن جودة و استمراريّة التعبئة الشعبية التي نعيشها، يعود الفضل الكبير فيها للمرأة الجزائرية. إن أعداء الأمة المنسجمة لن يتوانوا في محاولات ردع تواجد المرأة في نضال اليوم و بناء الغد. إن التهجمات ستكون ملحّة، منسقة و متكرّرة. إن أول الإنزلاقات، و لو كانت هامشية، التي شهدتها  المسيرات نالت النساء. و تهديدات عنيفة تمّ بثها من لندن. الشرطة اقترفت ما لا يوصف في حق مناضلات يافعات. و الخطأ الجسيم يكمن في تجاهل مدى خطورة هذه الإنذارات. والجدير بالذكر أن مكانة مساواة المرأة هي التي  تحدد مخرج ثورتنا

آخر العراقيل التي يتوجب تحديدها و تجاوزها هي : رفض الآخر. منذ أسابيع، جاورت الراية الأمازيغية، بدون أي مشكل، العلم الوطني. إلى غاية الأيام الأخيرة، حيث حاول بعض المتهوّرين ، بلا جدوى، تغييب القاعدة الأمازيغية لشمال افريقيا  و التي ترفرف حاليا من ليبيا إلى ضفاف الأطلسي. و يبدو أن هذه الأفعال الشنيعة من ترتيب دوائر مقربة من الجيش، و هو أمر يتطلّب التحرّي في شأنه. و إن تأكدت المعلومة، فهذا دليل آخر على عدم توافق العسكر مع آفاق الجزائر الجديدة

 

المرحلة الانتقالية : قاعدة قدر

نداء الشعب واضح :« النظام إرحل » . و إن كانت نزعة الرحيل ليست الحل، فهي الفرضية الأولى

إن المناورات السياسية و الادارية التي تم فرضها منذ الاستقلال لم تعد تجدي. و الدولة الجزائرية، كما ذكرناه سابقا، نسخة باهتة للنظام المؤسساتي الفرنسي

إن كل شيء ينادينا لنظام دستوري جديد. وعندما  يتم تقبّل هذا التقييم الأولي و الأساسي ، يمكننا البدء في التفكير حول مدة، و خطط و هيئات و محتوى و أهداف المرحلة الانتقالية

الكل متفق أنه يجب على المرحلة الانتقالية أن تكون قصيرة. هذا الشاغل الشرعي لا يجب أن يجعلنا نتجاهل أهمية هذه المرحلة التي منها ينبع كل شيء. أي تسرّع قد يولّد عواقب كارثية و البلد في غنى عنها . و المهم أن تكون الخطوات بمستوى متطلبات الساعة

إن السلطات الجزائرية القادمة مدعوّة لتسيير عهدتها على أسس متينة و مرسومة منذ بدأ المرحلة الانتخابية. لا يجب ترك أي تفصيل للصدفة أو للتأويل لأن الورش كثيرة و معقدة. لضمان بقائه، وضع النظام قنابل موقوتة، و من بينها طابعة النقود التي لا تقل أهمية. إن أوقات النعيم التي تمر بها البلاد يجب استغلالها لجعل أسس الدولة الجديدة متينة و شرعية. إنه السبيل الوحيد لإقناع الشعب حول المتاعب الاجتماعية التي قد تداهمنا في وقت وجيز لن يتعدى العام و النصف. و نظرا لهذه الوضعية، فإنه يجب النظر للمرحلة الانتقالية كمفتاح جزائر الغد. و بطريقة عمليّة، هذا يعني أنه من واجب الفاعلين السياسيين الأكثر حنكة و التكتلات الاجتماعية ذات المصداقية أن تكون أكثر تعبئة في هذه المرحلة من أجل وضع مبادئ عامة واضحة تحدّد معالم حياة الأمة الديمقراطية

و عليه يجب اخذ الوقت اللازم للنقاش حتى يتمكن كل واحد من فهم ما يعنيه الحراك الشعبي و ما قد يفرزه لقدرنا الآني. هناك نقاشات عامة محدودة هنا و هناك. يجب مضاعفتها بلا ممنوعات و لا شتائم

دون الدخول في التفاصيل، يمكن تحديد الأساسيات الديمقراطية و المصادقة عليها من قبل الشعب و طرحها كقواعد متعارف عليها لا يمكن لأحد الدوس عليها. ستأخذ هذه الأمور وقتها و لكن لا يمكننا القفز على هذا النزر القليل الذي بنيت عليه كل الأمم المزدهرة و الدائمة

لا يجب أن ننسى أنه على بعد جيل فقط، ولّد هذا المجتمع الذي يبهر العالم حاليا، في جوفه أفعالا فظيعة لا توصف. إن الجزائر لن تستميت عبر شعارات مغلوطة تناشد لتسيير البلد بخطابات شعبوية ، باختصارات و سوء فهم.

إن تم توثيق هذه القاعدة كمرجع لا مناص منه في إعادة ترتيب المدينة، كل شيئ قد يأتي بعده فهو سهل المنال. من أجل هذا ، يجب الإقناع و البيداغوجيا وإن اقتضى الأمر،  الصرامة. لا أحد له الحق في المنافسة الانتخابية إن لم يرضخ للقواعد الديمقراطية المتعارف عليها عالميا.

و بالنسبة للباقي، فهناك تقاطع في مقترحات المعارضة حول المضمون. الرئاسة الجماعية، الحكومة الانتقالية و اللجنة المستقلة لتنظيم الانتخابات… هي محل إجماع. و زيادة على ذلك ، و باستثناء النظام الذي يريد الالتفاف حول الثورة عبر رئاسيات سريعة، فإن أغلب الفاعلين السياسيين ذوي المصداقية متفقون على فكرة تنظيم انتخابات تشريعية ، كأول عملية انتخابية، تفرز مجلسا يؤسس دستورا جديدا. فالبرلمان المنتخب ديمقراطيا ، وحده الكفيل بتحديد ثم المصادقة على طبيعة النظام الذي يليق بالبلد : رئاسي، برلماني، …

المهم، و لن نتوانى على ذكر ذلك، هو وجوب أن تكون الشروط الديمقراطية مسلمات لا تقبل التعديل. نسمع بعض المتدخلين يرافعون لصالح المجلس التأسيسي كمخرج وحيد للمأزق الحالي. يجب أن نتذكر أن الجزائر كان لها مجلس تأسيسي غداة الاستقلال. و لكن بتغييب القواعد المؤسسة للحياة الديمقراطية، و الخداع بالخصوصية الجزائرية التي أريد بها تعويض المعيار التشريعي المنطقي، لم نتجنب التجاوزات و لا حالة اللااستقرار المؤسساتي

و تبقى هنا مسالة البعد التنظيمي للحراك. في أول وهلة، كان تنوّع مصادر النداءات و الإعلام غير ممكن تفاديه. بل كان الأمر ضروريا. إن محدودية مواجهة محاولات التحييد أو المناورات، أكانت من قبل الجيش أو أتباعه، تفرض تواجد أماكن نقاش أكثر تنظيما و مواقع نشر نداءات معروفة من قبل الجميع لأنه يجب على الحراك أن يتواصل حتى نهاية المرحلة الانتقالية. المقاربة الأولى تتمثل في تنظيم لقاءات محلية و جهوية  لوضع مرجعيات تكون مهمتها تدوين و إيصال مقترحات القاعدة أثناء الحوارات الشعبية. خلاصة الأفكار التي تنبثق من هذه الاجتماعات تكون بمثابة طرح سياسي يحدد الخطوط العريضة و الرزنامة التي يتم تنظيم المرحلة الانتقالية على أساسها

المهم في الأمر أن تبقى المبادرة في يد الحراك. بالإضافة لكونه يشكل ديناميكية سياسية بديلة ، هذا الإجراء يحمل في طياته حلّ مسألة الزعامة بما أنه يضع في الواجهة محتوى سياسيا، بدل أسماء تتهافت نحو الريادة، كحل بديل لحالة الشلل التي يتواجد فيها النظام. إنّه الوقت الملائم لضخ نفس المواطنة  في العملية السياسية

إن التطلعات التي هي مشروعة، يمكن التعبير عنها بعد المرحلة الانتقالية حين يكون المواطن في مقدوره لعب دوره المنوط به و المتمثل في كونه : الحكم الوحيد و الحصري للحياة العامة

خلاصة

يجب أن نكون يقضين حول الطبيعة الديمقراطية و العالمية للحركة التي نشأت في 22 فيفري. لفهمها في أدق تفاصيلها ، يبقى الحذر مطلوب. يجب معرفة كيفية  تحديد و تفكيك شفرة ما تحمل هذه الحركة كمشروع دستوري. الحل ليس في ما تبقى من كوكبة مؤسساتية محكوم عليها بحصيلتها و ظروف ميلادها

لقد حرفنا مسار كفاح سخيّ في 1962.  و رغم ذلك، صنعنا همزة وصل مع مواطنينا في 1980، أرغمت السلطة على تحرير المساجين السياسيين في وقت كانت تنفي حتى وجودهم. لقد انحرفنا عن مسار ثورة أكتوبر 1988 بتلويث التعددية السياسية بتضخيم عدد الأحزاب كي نسقط المصداقية عن فكرة الديمقراطية ذاتها. لقد كان ممكن خروجنا من سجل التاريخ في 1992. و حضرنا إعداما مباشرا  لرجل دولة ، همه الوحيد إعادة نسج خيوط تاريخ تمّ سلبه. لقد نجونا من عصابة نهبت أكثر من 1000 مليار دولار دون أدنى رقابة

ثم أتت هذه الظاهرة التي أبهرت حتى الجزائريين، كوننا لم ننتظرها. شبيبتنا المقصاة من الثقافة، المدفوعة نحو نظام تربوي معطّل، الخاضعة لتعتيم إعلامي طائفي و عنصري،  انتفضت في وقت لم ينتظره أحد. أبهرت العالم بتفتحها و سخائها و تخالطها و مرحها.  إن تحدينا اليوم سهل و حيوي : تحويل السراب إلى معجزة

عندما تخطى الأمريكيون العنصرية التي عمّرت تاريخهم، و انتخبوا أسودا رئيسا، قالوا : نعم نستطيع. اليوم ، أولادنا و النساء الجزائريات الذين بفضلهم عرف الحراك  نجاحا ، و كذلك جيراننا، يدعوننا لنقول : نعم سنفعلها

سعيد سعدي

تيزي وزو 18 أفريل 2019