في مساهمة فكرية جديدة، أوضح الدكتور سعيد سعدي أن وقت اللعب فوق حبلين قد ولّى، و أن ساعة تحديد الخيار قد دقت. فليس أخلاقيا أن يضلّ المرأ يأكل الخرفان مع الذئاب و يبكي مع الرعاة.
و دعا الدكتور سعيد سعدي إلى عدم تضييع الوقت في الجدال مع من ينادي بحكم العسكر ، و التركيز على الهدف الأسمى المتمثل في رحيل النظام كاملا ليتسنى تأسيس جمهورية جديدة تضمن الحقوق و الحريات. فالوقت كالذهب لذا يجب حسن استغلاله في ما ينفع الثورة الحالية.
و طلب من الشباب مواصلة المسيرة الثورية حتى بلوغ الهدف و تحقيق الأحلام لأن مفاتيح القدر بين يديه.
ساعة الخيارات
كثير من المواطنين يتساءلون عن ما يجب فعله لإعطاء الحركة الشعبيّة التي أبهرت العالم بضخامتها و سلميّتها، معنى و تماسكا
قبل التفكير في إعطاء توجيهات أو تنصيب قيادات في سدّة الحكم، يّستحسن ربّما التحدّث حول ما يجب تفادي فعله، أو بالأحرى، تكرار فعله
حنين قاتل
في أكتوبر، و كأوّل ردة فعل، عرف النظام الذي فاجأته انتفاضة شبانيّة، تشنّجا تاما. ففي الأيام العشر الأوائل للمظاهرات، اختبأ كل المسئولون الحكوميون. كانوا على اقتناع تام على أن الانتفاضة يقف وراءها جهاز خفيّ قد يحاسبهم بعد حين
و أدّت المحاولات الإرتجاليّة و الحمقاء التي بادر بها الاسلامويون و اليساريون لركوب موجة الغضب الشعبي، إلى انكشاف حركة بلا وجهة واضحة و إلى إسترجاع الثقة من طرف السلطة ممّا مكّنها على تنظيم مرحة انتقالية بطريقتها الخاصة. و الحصيلة معروفة. تلويث التعدّدية بالمال العام الذي أدى إلى إنشاء أكثر من سبعين حزبا و تحويل التعدّديّة الحزبيّة إلى فلكور ( كلّنا يتذكّر البحر الداخلي الذي سيسقي الأراضي الداخليّة )، و التفتّح الإعلامي المغشوش بمساعدات ما زالت تلقي بأوزارها على استدامة و استقلاليّة الصحافة، و مشاورات عُصبيّة مع الأصوليّة من اجل احتواء التطلّع لإعادة التأسيس في ترتيبات عُصبيّة ….
منذ أسابيع ، يحاول مسئولون قدامى، لا يعرف أكثرهم معنى التقييد و الحرمان، تجريب مناورات مماثلة. فهناك ما يشبه الإرادة في إعادة لعب نفس المباراة و حشر الديناميكية الشعبيّة الفريدة في شبكات و عمليّات هي بمثابة أفخاخ و رؤى قديمة. إن لم يتم الكشف عن تاريخهم الشخصي و وضعهم أمام مسؤولياتهم في المحنة الوطنيّة، فإن الغرور و الإنطواء السياسي و الإجتماعي لهؤلاء الأشخاص قد يحوّلهم إلى عوامل تعقيد إضافيّة لضرف تاريخي معقّد في أساسه
دوافع هذه المحاولات الاستدراكية سهلة الفهم. المبادرون بها هم فاعلون و مستفيدون من النظام الذي يعاد النظر فيه بصفة راديكالية من طرف الشعب، لكونه لم يفي بألف وعد و وعد يخصّ إصلاحات ما زالت تنتظر. إنهم معتادون على السيّاسات الموجّهة التي اتبعوها ، في حين أعاد بعضهم بعثها. فهم لا يعرفون طرق أخرى في الحكم و التسيير. بالنسبة لهم، لايمكن أن ياتي الحل من عالم يجهلونه و يربكهم.
إن القوى الخاملة للنظام التي تثقل كاهل المؤسسات تضفي بضلالها على المؤثرين في الرأي. لا يجب أن ننسى أنه، على مدى أسابيع ، ركّزت معظم وسائل الإعلام على رفض العهدة الخامسة. فالشارع من فرض رحيل كل النظام السياسي المؤسس منذ 1962.
في مقال نشرته يومية وطنية ، يوم 06ماي، كُتب أن السلطة ترفض تغيير (النظام) كما يطلبه الحراك و لم يقال تغيير (نظام) كما يشترطه المتظاهرون. و ها نحن نعود إلى الفوازير القديمة التي تشدو إمكانيّة إصلاح النظام من الداخل.
قوالب نمطية أخرى من الفكر الأحادي بدأت تظهر في هذه النداءات التي تريد أن تترفع عن الجماعة. فالحديث يدور حول الجيش و الشعب. فالمؤسسة العسكرية تم إقحامها سياسيا ككيان منفصل ، مساو ، و لما لا سام على الشعب. على كل حال، ألم نسمع أنّ الجيش فخور بشعبه ؟ و قيل، و كأنه أمر بديهي، أن الجيش لا يمكنه معارضة الشعب. رغم أن الحقيقة واضحة. فالجيش ، بالأمس و اليوم، معارض لإرادة الشعب. و سبب ذلك كون أن هذه المؤسسة تمّ تصميمها لذلك. فالنظام العسكري، أساسا، هو رفض للإرادة الشعبيّة. و في العالم الثالث، يبدو الأمر اكثر جلاء
نفس المتدخلين، أكانوا مخلصين في نواياهم أو مناورين، مُجمعون على وجوب الذهاب بسرعة نحو انتخابات رئاسية وفق الأحكام الدستورية الحالية. مما يشكّل كارثة حقيقية للبلاد. إن لم يكن بمقدور أحد التكهن بما قد يفرزه حراك 22 فيفري، فيجب أن يكون الشخص مغامرا ليؤمن بإمكانيّة أن يقبل المجتمع الجزائري باقتياده نحو أوحال يسيّرها رؤساء فوق العادة ، تم نقع جيل ما بعد الثورة داخلها
إن الثورة الحالية سياسية، ثقافية و اجتماعية. و إذا أضفنا القنابل الاقتصادية و الاجتماعية الموقوتة التي تنتظرنا في عام أو عام و نصف، يتحتّم علينا التفكير في تهيئة إطارات سياسية و إدارية جديدة تحظى بالشرعيّة و القدرة على التكيف و النجاعة اللازمة من أجل حوكمة تستطيع جلب موافقة المواطن على التخفيضات المادية و التي سيعجز عن تمريرها أي نظام بوليسي عسكري.
فلنقل أن برمجيات عرّافي النظام التي تعود إلى ذاكرتنا هي معطّلة في وقت تاريخي اختارت فيه أن تجتنب و ترفض رسالاته لعدم رغبة بقبولها و عدم قدرة فهمها. عالمهم انتهى و لكنهم يرفضون قبول الأمر الواقع. فلا داعي لمحاربتهم لأن النقاش معهم أمر مستحيل. إن أحسن ردّ لهذه الخطابات الغابرة هو تجاهلها. ما يهم هو تخيّل و بناء حلول جديدة غير متوفرة في الأفكار القديمة و لا في الإدارات التي أفرزتها
إنه من الضروري جدا وضع حواجز متينة بين من ينخرطون في مطالب التغيير الجذري للنظام و من يبحثون عن سبل إعادة بعثه من جديد أو تمديد فساده و عفنه. كل واحد من الموقفين يقصي الآخر. و إحداث هذا التمييز يشكّل في حد ذاته وسيلة للمضي نحو الأمام و ربح الوقت
آفاق
بالإضافة للدوافع الجوهريّة التي ذكرناها آنفا و التي تسقط المصداقيّة عن معظم الحرس القديم، هناك عوامل ظرفية تميّز إنفجار أكتوبر 1988 عن ثورة 2019. إن طابع العنف الذي ميّز الأوّل لم يمكّنه من بلورة ديناميكيته إلى حركة دائمة. في حين استطاع حراك 22 فيفري الذي قاده الشباب، و الذي سرعان ما أصبح الطلبة الجامعيون رأس حربته ، أن يمنح بفضل شبكات التواصل الاجتماعي القليل من المقروئية السياسية . و هذا ما مكّنه من التطوّر في كامل التراب الوطني و جلب كامل الطبقات الاجتماعية للانخراط فيه
إن وضع تفكيك النظام كهدف يعتبر من الناحية الإستراتيجية أمر جد مهم لأنه يطرح المشكل الحقيقي للبلاد، و من الناحية التكتيكية فهو أمر ناجع بما انّه يجمع جزء كبير من أطياف المجتمع. و هذا ما مكّنه لحدّ الآن من إبطال كل مناورات الإستفزاز و التقسيم
نسمع من هنا و هناك نداءات لإعطاء الحراك زعامات. و هو خطأ فادح. على الأقل في المرحلة الراهنة. ما دام الجيش باق كمقابل يخادع بإمكانية إيجاد مخرج للمأزق في إطار مؤسسات فاشلة كانت، في الأصل، سببا فيه، يتوجّب على الحراك أن يبقى قوة جماعية غير قابلة للتقسيم و مركّزة على الهدف الأول ، و هو الخروج من نظام سياسي منتهي الصلاحية و مفترس. هذا لا يعني أن لا نضاعف النقاشات كما هو الحال في الجامعات لبلورة الحديث حول تنظيم النضال و كيفيّة الوصول إلى الأهداف في مراحل محدّدة
إن وضع العاصمة في حالة حصار كل مساء خميس لإضعاف كتلة المحتجين، و إبقاء حكومة تم تعيينها من قبل شخص يوصف حاليا بالشيطان ، و التلاعب بعدالة انتقائيّة للخلط في ملفات الفساد و تصفية الحسابات ، آملين في نسيان الشعب لمطالبه ، هي رسالة سياسية مفادها رفض السماع ، و مقاربة تكتيكيّة تهدف لربح الوقت
إنّنا في صدد رؤية ورقة تطوى في جزائر ما بعد الثورة. إن إقالة و تغيير الأشخاص إجراءات لا تكفي. فإن تم القبول بهذه المسلّمات الأساسية، و هي لبّ الموضوع، يمكن لمسار تبادل الرؤى أن ينطلق
لن نبدأ من الصفر. في عزّ التعبئة الشعبية، ظهرت اقتراحات واقعية و عقلانية.
إن الرئاسة الجماعية التي يجب تحديد عددها و من يشكلها ، ضمانة لصمودها أمام الضغوطات و الإغراءات. حكومة انتقالية يشكلها تقنوقراط لتسيير الشؤون العامة، لجنة تعمل على استدعاء الفاعلين السياسيين و الاجتماعيين الذين بمقدورهم وضع و تسيير ميكانزمات الانتقال الديمقراطي و تنظيم التشريعيات قبل الرئاسيات هي مسائل حظيت بالإجماع في صفوف الحراك. و هذا في حد ذاته أمر عظيم. أمور أخرى يمكن إضافتها لهذا النزر. و يجب على التعبئة الشعبية أن تبقى يقظة طوال هذه المرحلة الانتقالية للتصدّي لأي مناورات ضد الثورة
يجب التفكير من الآن في جدولة الأولويات. فالوقت من ذهب. و لهذا يجب استغلاله بأحسن وجه، أي لا يجب أن نتسرع و لا أن نتردّد.
إن التجارب الدموية التي عرفتها الحياة السياسية الجزائرية تفرض علينا وضع هدفين حيويين في صميم عمل الندوة الانتقالية. يتعلّق الأمر بالمراجعة التامة و الجذريّة للملف الانتخابي الوطني و التحديد الواضح للشروط الديمقراطية المسبّقة التي تؤطّر كلّ مسار انتخابي. عندما يتمّ وضع هذه الأسس و المصادقة عليها، كل ما يبقى يكون محل تفاهمات ديمقراطيّة يستطيع أي مجتمع هادئ التوصّل إليها. لا وجود لأي مبرّر يجعلنا نشكّ في قدرة شعب استطاع الإبقاء على تعبئة من هذا النوع ، على إيجاد وسائط توافقيّة سياسيا لتنظيم الجزائر الجديدة. المهم أن نفهم أن مدينة الغد لا يمكن لها أن تكون نسخة باهتة للحي السياسي الذي ركن فيه الرجل العسكري المواطن غداة الاستقلال
الإختيار
في أعقاب الثورة الشعبيّة، ظهرت المسالة أكثر وضوحا ممّا يحاول الإيهام به رجال أجهزة نصّبوا أنفسهم كحكام أو تمّ اقتراحهم من قبل السلطة الفعليّة. لم يبقى سوى توضيح سوء التفاهم، رفع اللبس و الوقاية من الفخاخ. إن ساعة الخيارات الكبرى قد دقت. لا يمكن اليوم أن نكون برفقة من ينادي النظام بالرحيل و المشاركة في نفس الوقت مع من يهمس للنظام بالرجوع
أيها الشباب، أنتم من بيده مفاتيح قدركم. تحمّلوا و اقبلوا بحقائقكم. واصلوا المسار حتى بلوغ أحلامكم
آخر الكلام يرجع للعملاقة جميلة بوحيرد : لا تتركوا أحدا يسرق منكم ثورتكم
الجزائر، 08 ماي 2019
سعيد سعدي