دخل في سلة الشعارات المدوّية و المناهضة للنظام البائس مطلب اللجوء للعصيان المدني كوسيلة تعبير جماعية لإركاع أصحاب القرار و الدفع بهم لإرجاع مفاتيح الحكم للشعب، صاحب السيادة الأوّل و الأخير. كنتيجة لهذا المعطى الجديد، اختلط الحبل بالنابل بين المؤيّدين للفكرة و الرافضين لها.
الغير مقتنعون بجديّة و ضرورة العملية يبرّرون موقفهم بانعكاسات العصيان المدني على الوضعية الاقتصادية و الاجتماعية للبلاد التي قد لا تحتمل ضغطا أكبر و هي على فوهة بركان. فاحتياطات الصرف انهارت تماما و وضعية سوق المحروقات التي تعتمد عليها خزينة الدولة لا يتبشّر بخير. و تهديدات غلق مؤسسات الأوليغارشية المشغّلة لعدد معتبر من اليد العاملة قد يؤزّم الوضع أكثر. صناديق المعاش و التضامن الاجتماعي و التأمينات شبه مفلسة و آلية التضامن بين الصناديق للعبور الضرفي للعاصفة غير قابلة للتفعيل هذه السنة بسبب الوضعية المالية الحرجة للجميع. كلّ هذه المعطيات تجعل الرافضين لفكرة العصيان المدني يدقون جرس الانذار من مغبّة اللجوء لهذه الوسيلة في الاحتجاج لما تجمله من مخاطر آنية. و يرى أصحاب هذا الطرح المتشائم أن الحل في الذهاب للانتخابات الرئاسية في أقرب وقت لتجنب السقوط في هاوية المشاكل الاقتصادية و الاجتماعية.
في المقابل، يرى المدافعون عن فكرة العصيان المدني أن لا مفرّ من هذا السبيل الثوري للضغط أكثر على السلطة المتعنّتة من أجل الاستجابة الفورية لمطلب رحيل النظام و المرور إلى مرحلة انتقالية قبل أن تنفجر الجبهة الاجتماعية على وجه الجميع. و يحاول أصحاب هذا الرأي أن يشرحوا للرأي العام الوطني أن للعصيان المدني إيجابياته. فالعصيان المدني، حسب اصحاب الطرح، عملية سلمية لن تخل بالأمن العام. فهي ليست قطع للطرقات و تخريب للممتلكات و لا توقيف تام للحياة العامة. فالعصيان المدني يمكنه أن يكون إضرابا عاما دوريا، محدودا في الزمن. كما يمكن أن يأتي على شكل رفض جماعي لدفع بعض المستحقات للدولة كالعدول عن دفع بعض الرسوم الجبائية و عدد تسديد بعض الفاتورات أو إرجاءها لوقت انفراج المحنة السياسية و سقوط النظام القائم بالكامل. و من بين الإيجابيات الأخرى التي يقدمها أصحاب خيار العصيان المدني أنّه يكسّر روتينية الحراك التي قد تنتهي بقتل الحراك نفسه لأنه، حسبهم، لا وجود لحراك شعبي طويل الأمد دون تجديد آليات النضال و تنويعها. و يرى أصحاب خيار العصيان المدني أن السلطة المتعنتة لن تكون لها أذن صاغية إلّا إذا رفعنا من صوتنا و وتيرة نضالنا. و أن لا شيئ يأتي من دون تضحيات.
بين هذا الرأي و ذاك، ظهر في الساحة رأي ثالث ينادي بضرورة مواصلة التعبئة للحراك و الحفاظ على سلميته و طابعه الموحّد و ضرورة البحث عن آليات جديدة لضمان الحيوية في الشارع و تجنب القنوط و اليأس. و يرى هذا الفريق من النشطاء السياسيين و الاجتماعيين أن فكرة العصيان المدني حاملة لمخاطر كبيرة لا تتعلّق أساسا بالمساس بالأمن العام. و إنما باحتمال إحداث شرخ في صفوف الحراك و كسر وحدته. و يقول أصحاب هذه القراءة أن احتمال التصدّع في حائط المقاومة الشعبية وارد جدا لغموض الفكرة رغم العمل البيداغوجي الذي قام به مروّجو الفكرة و كذلك بالنظر لعملية التشويش الكبيرة التي تقوم بها جحافل الثورة المضادة في أوساط الرأي العام . معارضة فكرة الإقدام على العصيان المدني يبرّرها أيضا هذا الفريق بخروج شعار ” راهو جاي راهو جاي العصيان المدني ” دفعة واحدة و في وقت واحد عبر كامل التراب الوطني، ممّا يضع الشعار مريبا من حيث مصدره، و مقاصده الحقيقية. “الحراك الشعبي غير مهيكل عموديا و لا أفقيا، فكيف لشعار غريب عن الحراك أن يخرج فجأة و في وقت واحد و بسرعة البرق في جميع المدن ؟”، يقول الكثير من الملاحظين. و السبب الآخر الدافع لرفض فكرة العصيان المدني، على الأقلّ في الفترة الحالية، هو عدم وجود هيئة تنسيق وطنية ممثّلة للحراك تضمن إدارة هذه العملية و تأطيرها و متابعة مستجدّاتها و التصدي لأي عملية خرق لسلميتها. العصيان المدني عملية جماعية جد معقّدة تستوجب جهة سياسية تتحمّل مسؤولية النداء له مع ضرورة تحمّل تبعاته الإيجابية و السلبيّة. فما هي هذه الجهة التي لها الشرعية الثورية لدفع الحراك الشعبي نحو هذه الوجهة ؟
لقد عرف الحراك الشعبي في أوّج تعبئته الوطنيّة نداءا واسعا عبر شبكات التواصل الاجتماعي لإضراب عام لأربعة أيّام. و عرفنا مدى التجاوب الشعبي للنداء و جغرافية تفعيله. و أخذا بالعبر، يجب التفكير في آليات تمكّن الثورة الشعبية من الوصول إلى أهدافها دون المغامرة بمصداقيّة الحراك و وضعه في حالة حرجة. خاصة و أن الإعلام الثقيل المأجور و الثورة المضادة في حالة ترصّد أي خلل أو مؤشّر ضعف و عدم تنسيق كي تُجهز على الثورة و مكتسباتها.
أصحاب هذا الطرح الثالث يفضّلون البحث عن آليات أقلّ ضررا بالحراك و أكثر نجاعة في النضال. و سلّة المقترحات لديهم جدّ غنيّة. فالبعض يرافع من أجل تخصيص يوم لكل قطاع أو هيأة لتنظيم مسيرة شعبية أو اعتصام على غرار الطلبة الذين تبنّوا الثلاثاء كيوم لحراكهم. تثبيت رؤساء البلديات على موقفهم الرافض لتأطير الانتخابات مخرج آخر يجب التفكير فيه، و يكفي لهذا أن تجد الطبقة السياسية و الاجتماعية الآلية الناجعة للتنسيق بين الأميار المنخرطين في الحراك.
و مهما يكن، ينتظر الجميع أن يعود الزخم الشعبي إلى المسيرات بعد مرور فترة العطلة الصيفية و انخفاض درجة الحرارة . لأن لا شيئ يؤشّر أن الحراك قد فقد من حيويته للإسراع نحو عمليات قصوى قد تعصف بوحدة الحراك. فالفلسفة الأولى التي بُني عليها الحراك الشعبي في بداياته هي تجنّب كل ما يفرّق و البحث عن السبل التي توحّد و تضمن التقدّم في المكاسب “.
أمياس مدور